منذ اللحظة الأولى لانهيار نظام حزب البعث في العراق بزعامة صدام حسين، على يد قوات القوات الاميركية وحلفائها، في 9 نيسان/ أبريل 2003، تأمل الكثير من العراقيين بزوغ عصر جديد مغاير للظلم الذي عاشوه أكثر من عقدين في ظل الدكتاتورية اضافة الى الحرمان والجوع الذي ذاقوه بسبب العقوبات الدولية المتمثلة بفرض الحصار الاقتصادي عليهم منذ عام 1991 والحروب.
بين الرجاء والخوف ولكن..
مثّل مشهد إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس شيئاً غير معتاد من العراقيين الذين لم يجرؤوا على الاساءة اللفظية للرجل حتى في غرف نومهم. لكن العراقيين عاشوا المرحلة بمشاعر متذبذبة بين الرجاء والخوف من القادم المجهول، خاصة بعد نشوب فوضى عارمة اجتاحت جميع انحاء البلاد تمثلت بنهب المؤسسات الحكومية والاهلية، مع توقف شامل لمحطات الطاقة الكهربائية والمياه والوقود، فضلا عن تعطيل المدارس والجامعات لأكثر من عام.
ثم أملوا بعودة عناصر الجيش والشرطة الى الخدمة من جديد ليساهموا في استتباب الامن المنفلت، والذي لم تحرك القوات الامريكية في حينه ساكناً لضبطه، لكنهم فوجئوا بقرار بول برايمر الحاكم العسكري الامريكي، بطرد جميع العسكريين الكبار والكفاءات والنخب العلمية والفنية المهمة من وظائفهم بتهمة الولاء لصدام حسين.. في حين لم تحصل مثل هذه القرارات في اي دولة تعرض نظامها لانقلاب بفعل قوة داخلية أو خارجية.لم يحدث أن انهت عمل مؤسستها العسكرية او الصناعية باعتبارها أركاناً أساسية تقوم عليها الدولة والمجتمع.
بشرت خطب رجال السياسة والدين بعهد ديمقراطي جديد عبر تشكيل مجلس الحكم "المؤقت" لإدارة أمور البلاد، التي تضمن الرئيس السابق جلال طالباني ووزير الخارجية الحالي إبراهيم الجعفري وعبد العزيز الحكيم، "زعيم المجلس الاعلى الاسلامي العراقي" انذاك وأحمد الجلبي زعيم "حزب المؤتمر الوطني" ورجل الدين محمد بحر العلوم وغيرهم.. وكانت هذه السلطة تعمل باشراف مباشر من قبل الحاكم العسكري الامريكي.
وفي اول مؤتمر صحافي، خاطبت هذه السلطة السياسية الجديدة االعراقيين بانها ستأخذ على عاتقها "إعادة تشكيل الدولة وفق نظام مؤسساتي ديمقراطي عادل يساوي بين جميع مكونات الشعب يضمن لهم حرياتهم دون تمييز او اضطهاد ويعمل على الارتقاء بمستوى الملف الخدمي والصحي والتعليمي والثقافي وينتشل البلد من وحل العوز والجهل واحداث طفرة نوعية تقدمية تنافس بها الدولة المتقدمة في المحيط الإقليمي والعربي".
ومضى على هذه الوعود أكثر من 14 عاماُ، تخللها تشكيل 5 حكومات، تولى حزب الدعوة الاسلامية أحد التيارات السياسية الشيعية القريبة من إيران، ادارة اربعة منتخبة منها، وما يزال هذا الحزب مستمرا لغاية الآن بالامساك برئاسة مجلس الوزراء من خلال القيادي فيه حيدر العبادي. لم يتحقق اي شيء غير انجاز دستور ركيك كتب بعجالة يضم مواد وفقرات أتاحت فرصة كبيرة للوصوليين من الكرد والطائفيين من العرب المطالبة بتقسيم البلاد لثلاث دويلات (شيعية وسنية وكردية)، وكانت إحدى أدوات تنفيذ هذا المشروع اندلاع حرب طائفية دامية بدأت شرارتها فور التفجير "المنظم" الذي حدث في 22 شباط/ فبراير 2006 حين استهدفت جماعات سنية متشددة مرقداً مقدساً لدى الشيعة بمدينة سامراء. تركت هذه الحرب خلفها مجازر أودت بحياة الآلاف من المدنيين في وقت كانت الاحزاب السياسية الحاكمة منشغلة بتقاسم كعكة ممتلكات وقصور صدام حسين في الداخل والخارج، وعقارات الدولة المهمة، علاوة على انشغالهم بتقاسم المنح المالية الامريكية التي كان يفترض أنها مخصصة لمشاريع إعادة إعمار العراق.
المرارة والخذلان
ولعل أخطر تداعيات ذلك الفراغ الأمني هو ولادة جماعات إسلامية (سنية وشيعية) متشددة، بعضها كان يمول من قبل إيران، والاخرى من دول الخليج كالسعودية وقطر أو من تركيا. وكانت تلك المجموعات تمثل نواة الصراع الطائفي حينها وتهدف الى تنفيذ أجندة ومشاريع داعميها، ومنها ما يتعلق بمصالح تجارية واستثمارية، واُخرى بأبعاد جيوسياسية متصارعة او تهدف لهدم ما تبقى من مؤسسات الدولة العراقية، في وقت نجد الامريكان يتفرجون على هذا المشهد الدموي الممزق لشرايين المجتمع. بل تحولت المناطق الشمالية والغربية وأحزمة مناطق العاصمة بغداد ذات الكثافة السكنية السنية الى بيئة خصبة لتنظيم القاعدة واخواتها.
وفي غضون ذلك كله يحصِّن السياسيون والمسؤولون أنفسهم وعوائلهم في "المنطقة الخضراء" التي تحظى بحماية دولية.
الا ان القوى السياسية سواء تلك الموجودة في مجلس النواب أو في مجلس الوزراء قد خيبت آمال الناس في تحقيق حلم "دولة سيادة القانون"، عبر قيامها بارتكاب جرائم فساد مالي واداري تسببت بضياع مليارات الدولارات من الميزانية العامة.
ولم يكتفِ السياسيون بجرائم سرقة أموال الدولة، بل قاموا بتأسيس شركات رديئة ومراكز تجارية وشراء عقارات، واحتكروا السوق ليمارسوا فيها تجارتهم، وادخلوا سلعا رديئة الى البلاد، وتفشت الرشوة والمحسوبية في الدوائر الحكومية.
قصف بغداد.. أوراق من الشوارع الخلفية
10-04-2017
كما قاموا بتشريع قوانين تساعد على تفاقم المشاكل الاجتماعية منها قانون تعديل الاحوال الشخصية الذي يعمل على تسطيح المؤسسة المدنية وتقوية المؤسسة الدينية، وقانون العشائر وغيرها من التشريعات الرجعية التي لا تنسجم مع تطلعات الشعب العراقي ولا مع ما سبق له انجازه.
وأما تفاصيل عمليات السرقات التي يرتكبها المسؤولون العراقيون فمنها للتذكير قصة ضياع مليارات الدولارات من ميزانية الدولة عام 2014 لا يعرف لغاية الآن أين ذهبت أو صرفت، وقبلها صفقة الدقيق المتورط بها وزير التجارة الأسبق (فلاح السوداني)، وصفقة الاسلحة الاوكرانية، إضافة الى السرقات التي ارتكبت بمشاريع خدماتية.. لذا فان البلاد ما بعد صدام حسين لم تتعاف ولم تصل الى النظام الديمقراطي المنشود، بل ازدادت أزماتها وأصبح فيها المئات من المستبدين الصغار، واستفحلت فيها أزمات أخرى كالسكن والبطالة، وبرز اليأس وبالاخص بين الشباب وقد جاءهم كخبر إضافي إيقاف التعيينات الحكومية في ميزانية عام 2018..
لو قارنا ملف الخدمات بين الحاضر والماضي فاننا سنجد فرقا شاسعاً، اذ ما تزال الشوارع والجسور والابنية ــ المتهالكة حالياً ــ هي من نتاج فترة حكم صدام حسين، ولم نجد هناك أي ترميم أو اعمار لها في وقت تخصص ميزانية في كل عام بمليارات الدولارات لتنفيذ ما يقال إنه مشاريع عمرانية جديدة، لا تبصر النور.
كما أن حالة التعايش والتأخي بين المكونات كانت أفضل بكثير وكانت الأقليات الدينية (من الايزيديين والمسيحيين والصابئة والشبك وغيرهم) يناولون حصة كبيرة من الاهتمام، بينما تعرضت مناطقهم اليوم الى تغيير ديموغرافي هائل.
وحين تخلص العراق من منعطف خطير في تاريخه، هو احتلال تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) لمساحات كبيرة منه في 2014، عاد الأمل من جديد ببلد مستقر قوي وفاعل. ولكن الطبقة السياسية التي اخفقت في الاعوام الـ14 الاخيرة هي ذاتها التي تتربع على عرش القوائم المتنافسة في الموسم الانتخابي التشريعي الجديد الذي يجري في 12 أيار/ مايو المقبل، والذي يشهد الآن وعودا بالجملة من قبل اولئك السياسيين عبر شاشات التلفاز وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بتنفيذ برامج بناء دولة المؤسسات ومكافحة الفساد. الا ان خيبة الأمل الكبرى التي يعيشها العراقيون تشير الى عزوف الكثير منهم هذه المرة عن المشاركة في الانتخابات التي لم تحمل لهم إلا المرارة وتدوير الوجوه نفسها التي خانتهم وخذلتهم في الاعوام التي تلت 2003.