مذبحة إدلب كانت متوقعة تماماً. متوقعة لدرجة أن المرء يخجل من تناولها الآن، حتى ولو من أجل استنكار وقوعها. كنا جميعنا نعرف أن ذلك سيكون مآل تجميع المقاتلين وعائلاتهم، وكل الراغبين بالخروج من مناطق القتال في ريف دمشق وسواه، بموجب "اتفاق" بين كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، الرسمية والإغاثية والمقاتلة الخ.. وإجلائهم في باصات نقل إلى إدلب. من نسي المشهد والأرتال المنسقة وألف الكيلومتر المقطوعة أو تكاد، وتلهّي المصورين بالتقاط صور لبعض المقاتلين البلهاء، وهم يرسمون شارة النصر من خلف زجاج باصات النقل (كانت خضراء، أليس كذلك؟) أو يلوحون برشاشاتهم: "يا للهول، سُمح لهم بالاحتفاظ ببعض الأسلحة؟"!
وأما ماذا بعد إدلب؟ فسؤال كان مسؤولو منظمات حقوق الإنسان العالمية يشيحون بنظرهم حين يُطرح عليهم، ويصمتون. تماماً مثلما كانوا يفعلون إثر تفكيك "دولة داعش" وتسرّب من سُهِّل له الأمر إلى إدلب تلك، أو إلى تركيا، وتجميع النساء والأطفال في معسكرات بشعة، وتلكؤ الدول التي يحملون جنسياتها في استعادتهم، إلى آخر ما شاهده الجميع (أيضاً)، ولسان حال مسؤولي تلك الدول يقول: ليتهم كانوا مُحِقُوا عن بكرة أبيهم، عوضاً عن هذا الإحراج! بينما تخرج من أفواههم تصريحات أكثر تهذيباً ولكنها تقول المعنى نفسه. حينها لم ينفع شيء في قلب هذه المعادلة المجنونة: لا توسلات جدات الأطفال في الدول الغربية، وإعلانهن استعدادهن لاستقبالهم، ولا تحقيقات صحافية مصورة أجراها صحافيون وصحافيات مهرة في تلك المعسكرات التي تقشعر الأبدان لهول ما روي عنها.
سوريا: الولادة والموت في حافلة نازحين
11-04-2018
كانت إدلب دُمّلاً سيُفقأ لا محالة. وحين بدأت السلطات التركية بتجييش مقاتلين سوريين لإرسالهم إلى ليبيا، ظننا أن تلك ستكون إحدى أدوات إفراغ الدمل. ثم راح الطيران السوري والروسي يقصفان المكان بلا هوادة (نصف القتلى من الأطفال)، بينما يستعرض السلطان أردوغان دباباته كما يحلو له، فالأرض السورية والفضاء السوري "سداح مداح"، ويجيّش مقاتلين لم يدفع ثمنهم (أو وعدهم بمقابل زهيد ومقدور عليه، أو فاوضهم على إيواء نسائهم وأطفالهم)، ولن يحاسبه أحد على موتهم - فأهلهم بلا صوت وبلا أهمية وبلا وزن بنظر أحد - أو يرسلهم وعائلاتهم إلى "حدود أوروبا" براً وبحراً، فيصطدمون هناك بجدران من أسلاك شائكة ورصاص، ويُسعد هو إذ خلق للأوروبيين أزمة، يأمل بابتزازهم بفضلها. تلك حالة العالم اليوم!
تلك حالة العالم اليوم، فلا عجب إن لم يكترث أحد بعربدة ترامب ونتنياهو بخصوص فلسطين، أو بعربدة بعض القيادات الفلسطينية التي تدعو إلى "الواقعية"، أو بعربدة بعض أمراء الخليج ممن يظنون أن فرصتهم سنحت ليثبتوا ولاءهم لأسيادهم البيض، أو ليحتلوا المسرح الفارغ، ويمثّلوا دور العظماء.
وليس أدلُّ على حالة العالم اليوم من هلع كورونا الذي انتاب كل البشر، وعلى الأخص منهم السادة البيض المتفوقين والمتحضرين. فإن اكتشفنا بمناسبة الفيروس أن الزوار في المقامات الشيعية في إيران "يلعقون" الأضرحة، وقد نُهيوا عن تلك العادة وهُددوا بالغرامات والسجن والجلد (بيان إيراني رسمي)، وأن سدنة الكعبة ألغوا العمرة ولعلهم يلغون الحج نفسه، فالأوروبيون العقلانيون قد جففوا مخزونات المطهرات والكمامات، وراح الإعلام يحاول إقناعهم بأن تعاطي الكوكايين ليس فعالاً في منع الإصابة بالفيروس، ولا الاغتسال ببول الأطفال!
أثبت كورونا بأنه من اليسير للغاية التلاعب بمشاعر البشر وغرائزهم ودفعهم إلى السلوك القطيعي.. وأن تدمير المنظومات القيمية لصالح الفردانية الآنية المطلقة، يُولّد هذا المشهد "المضحك".
---
وحدهن النساء خرجن عن السياق التعس للحروب والإبادات والهستريا الجماعية، التي تطغى إذ تُفتقد الأشياء الجادة: في السودان وفي الجزائر وفي العراق وفي لبنان، حيث وقعت انتفاضات أو ما زالت جارية، احتللن الفضاءات كلها، بشجاعتهن ومثابرتهن وتحررهن من كل القيود ووعيهن وحرصهن على الجماعة.
النساء مستقبل البشرية؟ في اليوم الذي يُحتفل فيه بحقوقهن.. في 8 آذار/مارس، يحق لنا أن نظن ذلك!