كان من الواضح منذ بداية الازمة المالية في لبنان أن هناك اطرافاً داخلية وخارجية تريد للبلد ان يوضع تحت مظلة صندوق النقد الدولي... رافضين اتفاق "سيدر" الذي كان بالمقابل يعوِّل على البنك الدولي.
ومن حيث لا يدرون، ساهمت انتفاضة اللبنانيين ضد اكتشافهم لمقدار النهب الذي تعرضوا له، بتسريع الامور في هذا الاتجاه. حيث أن تعطيل البلد لأكثر من ثلاثة أشهر ومنع التصويت على موازنة 2020 ببنودها الثمانية عشر الإصلاحية، سهلت الطريق أمام "خيار" مظلة صندوق النقد الدولي.
هذه أسئلة ضرورية تثار في هذا المجال:
اولاً: هل يعلم الشعب المنتفض ما هو الفارق بين صندوق النقد الدولي وبين البنك الدولي؟ "الإصلاحات" التي كانت طوعية في ورقة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، وفي البيان الوزاري الحالي، ستصبح شروطاً مفروضة، ولا يمكن التملص من تطبيقها في حال وضع صندوق النقد الدولي يده على لبنان. وأكثر تلك الشروط لا تطابق آمال المنتفضين لأنها تضمن توسيع القاعدة الضريبية، وزيادة الرسوم والضرائب، ورفع سن التقاعد الذي قد يصل الى خمس سنوات اضافية من العمل، كذلك ستفضي الى تجميد الأجور، اي التخفيض الفعلي للمعاشات نتيجة التضخم، كما الى الغاء المعونات والمساعدات والدعم على السلع؟
في كيف أديرت عملية النهب والافتراس في لبنان
07-12-2019
ثانياً: ما هو الحجم الفعلي للاحتياطي من العملات الاجنبية لدى البنك المركزي؟ يتراوح المبلغ لدى الدراسات الاميركية، وشركات التصنيف العالمية، مروراً ب "كارنيجي" و"بنك اوف اميركا" الخ.. بين 9 و29 مليار دولار! وبالمناسبة، لم نرَ مطالبة بمعرفة مكان وجود ذهب لبنان؟ ولا بتقييم قيمة الذهب الموجود على أساس سعر أونصة الذهب الجديد الدي وصل الى 1600 دولار للاونصة، أي بربح للدولة يصل مجموعه الى 3 مليار دولار، كافية، لو تم حسابها والتصرف بها، لشراء سندات الدولة اللبنانية المستحقة بالدولار حتى أواخر 2023 من دون خفض تغطية الليرة اللبنانية.
ثالثاً: من الذي سمح للدين اللبناني بأن يصل الى 150 في المئة من الدخل القومي؟ الم يكن هذا هدف بعض الاطراف الخارجية والداخلية من أجل الانقضاض علي البلاد سياسياً والتحكم بها؟ وايضاً لمنعه من التنقيب عن الغاز لسنوات بانتظار انتهاء إسرائيل من مد شبكتها من الأنابيب مع قبرص واليونان ومصر والأردن وإيطاليا، وكذلك انتهائها من بناء معامل تسييل الغاز؟ بل ويضاف الى ذلك التوقيع على اتفاقيات طويلة المدى بين الدول الستة، بحيث ان لبنان، عندما يبدأ بالانتاج، فسيكون أمام أمر واقع مفروض عليه: فإما ان يُصدِّر عبر الشبكة الاسرائيلية التي تحيط به، أو يصدر غازه باساليب مكلفة كالبواخر، إنْ لم يرد التطبيع مع اسرائيل. والنتيجة أن الغاز اللبناني لن يستطيع أن يكون منافساً في السوق العالمية.
رابعاً: من هو الأشد فساداً؟ الراشي أم المرتشي؟ الفرنسيون يعتبرون أن من يدفع ل"بائعة الجنس" هو الملام الأكبر وهو من تطاله عقوبات اشد! فمن هي الشركات الأجنبية التي تدفع العمولات (ولمن؟)، وكيف يمكن محاولة معاقبتها في بلادها؟ هل يعلم المنتفضون ان الفاسدين لا يسرقون وإنما يسنون القوانين التي تتيح لهم النهب القانوني، وبالتالي فسيجد القضاة صعوبة كبيرة في استرجاع "الاموال المنهوبة"، لأن أكثرها منهوب ضمن القوانين، وفي ظروف لم تكن هناك أصلاً موازنة لأكثر من عقد من الزمن؟
خامسا: المطالبة بحكومة تكنوقراط صافية هدفه وضع خبراء ذوي كفاءات عالية في السلطة، وكأن المسألة هي مجرد مسألة تقنية. لكن هؤلاء الاختصاصيين ليسوا خريجي إدارة عامة (لا توجد أي جامعة في لبنان تدرّس هذا الاختصاص)، وهي دراسة ضرورية لمن هم في منصب إدارة البلاد. فلا يكفي أن يكون الشخص مهندس كهرباء ليضع سياسة الطاقة والموارد في البلاد! ولا يمكن لأي شخص أن يكون طبيباً ليصلح كوزيرٍ للصحة الخ.. ثم إن كان التكنوقراطي هو المرادف بنظر المطالب الشعبية ل"المحايد"، فهل يصدِّق المنتفضون أن هناك تكنوقراطي لا ينتمي الى حزب أو دين أو قبيلة سواء في لبنان أو خارجه؟
سادسا: المسؤول الاساسي عن تردي الأوضاع الاقتصادية ليسوا الفاسدين وحدهم، بل وفوق ذلك، فإن انخفاض دخول الرساميل الي لبنان يعود الى اسباب موضوعية متعلقة بما يحدث في المنطقة، وهي خارجة عن ارادة السياسييين المحليين: انخفض سعر النفط منذ 5 سنوات بشكل مهول، وتسبب ذلك في عجز غير معهود للموازنات في دول الخليج؟ عجز هو لربما الأعلى في العالم (يتراوح هذا العجز بين 10 و20 في المئة من الدخل القومي حسب الدول والسنوات). اختفى السواح العرب والمستثمرون في العقارات اللبنانية، وانخفضت تحويلات المغتربين بشكل دراماتيكي الخ.. بالاضافة طبعاً للحرب في سوريا.
سابعاً: ألا تبدأ المطالبة بالشفافية بالمطالبة بإصدار قانون يُجبر حاملي سندات الخزينة اللبنانية على الإفصاح عن هوياتهم واسمائهم للبنك المركزي، كما هو حاصل مثلاً في الولايات المتحدة الأميركية؟ فهذه مسألة أمن قومي الآن للبنان. المَحافظ الأجنبية الكبيرة التي يصل حجم البعض منها أحيانا الى200 مرة الدخل القومي اللبناني و100 ضعف الدين اللبناني، يمكنها التلاعب بسرعة بسعر السندات، وتستطيع ان تجبر لبنان على التخلي عن سيادته المالية والاقتصادية كما سيحصل الآن على الأرجح.
يُفترض بصندوق النقد الدولي أن لديه الدواء الناجع للدول النامية.. ولكن الصندوق لا يتدخل أبداً في شؤون الدول المتقدمة، ولا يفرض عليها تخفيف دينها وتحسين ميزانيتها التجارية الخ.. على الرغم من أن أغلبها لديه دين عام يفوق المئة في المئة من دخلها القومي!