"الشعب" اللبناني يقول: "هيهات منا الذلة"! (1)

كان الدمار في بيروت "اختيارياً" خلال الايام الثلاثة الماضية، يقول للسلطة: لم يعد هناك أملاك عامة لهذا الشعب سوى مساحة جسد كل متظاهر فوق الشارع. وكلّما زاد بطشكم سيزداد غضبنا. ولأن لا شيء لنا، من الهواء وصولاً إلى الخبز، فسيتم تدمير كل ما تبقّى للسلطة من واجهة.
2019-10-19

نغم شرف

صحافية من لبنان


شارك
تصوير: جاد غريب (عن فايسبوك)

تصل المعلومات من كافة المناطق اللبنانية لتُعْلمنا أنّ السلطة الحاكمة ستدافع عن مواقعها بكل ما تملك من شراسة: قنّاص يودي بحياة شاب على طريق المطار، مواكب النوّاب تُطلق الرصاص الحي على المتظاهرين لافساح الطريق، بعض أتباع "حركة أمل" في مدينة صور كُلِّفوا بفضّ التظاهرات بقوة السلاح بينما تحرس قوى الأمن الداخلي صورة "نبيه بري". الجيش يدوس بنعله على الأفراد في وادي شحرور. مواطن يحاول احراق نفسه أمام "ثكنة الحلو" بعد إلقاء القبض على ابنه... الشعب اللبناني يدفع ضريبة عيشه بالدم. والحيادية صفة جديدة في خطاب حسن نصر الله.

نطقت الأفواه الجائعة قبل ثلاثة أيام. أعلنت اسم كل مسؤول حرمها حقّها من العيش بكرامة. لا يوجد خطة أو رؤية تحليلية لطريقة سير الأمور أو لنتائجها حتى الآن، وإنما هناك معادلة بسيطة: الكادحون اللبنانيون، بفقرائهم وعاطليهم عن العمل ومن ظنوا أنفسهم "طبقة وسطى"، يقفون في وجه سلطة رأس المال. ويبدو أن هذه الأخيرة تعتبر كل من يقف في وجهها قابل للتّهديد، الضرب، الدهس، والقتل.

احترقت الطرقات من الجنوب إلى الشمال. خرجت التّظاهرات اللامركزية. "الشعب" بمختلف طوائفه يسعى للوصول إلى أقرب نقطة تجمع، رافضاً الانصياع للخطابات الفارغة ولأي محاولة لإحتوائه. في بيروت، حيث لم يبقَ أي عدّاد وقوف للسيارات ("باركميتر") للشركات الخاصة، امتلأت الشوارع بالزجاج المكسور وشعرنا أننا نمشي داخل فيلم سينمائي، قرّر مخرجه أن يُظهر كيف تكون الثورة المصنوعة بأيادي الناس، من خلال رائحة الدواليب المحروقة، الدكاكين المعتصمة، والدخان المتصاعد حتى السماء. وعلى الرغم من الدّمار الحاصل، إلا أنّ بيروت اليوم حيّة أكثر من أيّ وقت مضى. بيروت تعكس بكل تفاصيلها قهر الناس وغضبهم وحبهم للحياة. البارحة، لم تُكدّس النفايات في وجهنا كما في 2015، لم تفض مجارير المياة المبتذَلة في البحر فتحرمنا من السباحة كما في كل صيف، بل كان الدمار إختيارياً، يقول للسلطة: لم يعد هناك أملاك عامة لهذا الشعب سوى مساحة جسد كل متظاهر فوق الشارع، حيث يتم تكسير عربات أرزاق الناس المهمّشة، ويُمنع بائع الورد من الدخول. كلّما زاد بطشكم سيزداد غضبنا، ولأن لا شيء لنا، من الهواء وصولًا إلى الخبز، فسيتم تدمير كل ما تبقّى للسلطة من واجهة.

المعادلة بسيطة: الكادحون اللبنانيون، بفقرائهم وعاطليهم عن العمل ومن ظنوا أنفسهم "طبقة وسطى"، يقفون في وجه سلطة رأس المال. نطقت الأفواه الجائعة وأعلنت اسم كل مسؤول حرمها حقّها من العيش بكرامة.

من الضاحية الجنوبية لبيروت، ومباشرة على الهواء، قال الشاب: "في أربعين الحسين، لا تذهبوا إلى كربلاء، إنزلوا إلى الشوارع ودافعوا عن أنفسكم. لا مذلّة أكبر من هنا.. وهيهات منا الذلّة". الذّل وحّد الشعب اللبناني.

لم تُظهر قوى الأمن ذرّة رحمة تجاه المتظاهرين. في لحظة محدّدة، وبعد إنتهاء سعد الحريري من إلقاء خطابه، أطلقت قنابل الغاز المسيلة للدموع بكميات كبيرة، نتج عنها حالات إختناق وتدافع. هذا الرعب الذي عاشه المواطن دفعه لصب غضبه على كل ما صادفه من أملاك، عامة وخاصة. خلع المتظاهرون أحذيتهم واستبدلوها بأخرى من ماركة "Puma". هؤلاء الشباب الذين يقولون في ساحة الشهداء، وسط البلد، انهم لا يملكون في جيبهم ما يكفي لشراء "كعكة زعتر"، انتعلوا أحذية مريحة ستساعدهم على الركض بشكل أفضل حين يلاحقهم الجيش في الأحياء الضيقة وإلى ما بعد جسر "الرينغ" المتعالي فوق ما كان "ساحة البرج" وأصبح من أملاك شركة "سوليدير". هؤلاء الذين لا يذوقون طعم الحلوى الطيبّة إلا في ولائم ما قبل الإنتخابات، رشّوا في الهواء أفخر انواع الشوكولاتة، وقالوا: "حلوان الثورة"!

لا يريد "الشعب" الساعي بإتجاه النّجاة سوى تحقيق أحلام صارت شبه مستحيله، كتأمين حقّه بالماء والكهرباء والهواء. ولأن السلطة ترفض أن تخسر مصادر سرقات أركانها، فهي تواجهه بكل الوسائل بهدف إخضاعه وحمله على "النسيان". لكن ما لم تدركه بعد هو أنها استنزفته لدرجة أن الشارع تحوّل إلى منزل يضمّ قنينة الماء التي يحتاجها، وقوته اليومي ورصيفاً يفترشه. فجر اليوم، وبعد انهاء الاعتصام بعنف وحشي من قبل رجال السلطة، عاد الشعب إلى الساحة، حرق مبنى وزارة المالية، وأكّد أنّه لا ينوي الرحيل.

خوف وأمل يملآن النفوس، المعركة مفتوحة وهي طبقية وأفقية، لا زعيم لها ولا خطاب موحّد. في مدينة صور فُرشت صورة رئيس مجلس النوّاب تحت أقدام المعتصمين، في مدينة طرابس أحرقت صور سعد الحريري وكل "زعماء" المدينة: " كلّن يعني كلّن" كان شعاراً في "الثورة على النفايات" في صيف 2015، وها هو يستعاد الآن. في الدورة لقّنت إمرأة جبران باسيل درساً في الوطنية، في جبيل وجونية وزحلة تظاهرات وفي زغرتا كذلك. ومن الضاحية الجنوبية لبيروت، ومباشرة على الهواء، قال الشاب: "في أربعين الحسين، لا تذهبوا إلى كربلاء، إنزلوا إلى الشوارع ودافعوا عن أنفسكم، لا مذلّة أكبر من هنا.. وهيهات منا الذلّة". الذّل وحّد الشعب اللبناني.

لا سلام مع هذه السلطة، ولا مجال للتراجع. في هذه اللحظة يختلف المشهد بحسب إختلاف المناطق ولكنه موحد في الصميم، ويتوزع بين المطالبين بالتّغيير وبين أتباع أركان النظام الحالي وبالاخص منهم "البلطجية"، الذّين يعتدون - حسب ما تُظهر الصور - على كلّ من يمس برئيسهم، أياً كان. لم تستثنِ أي منطقة نفسها، ولا أي طائفة! وكلٌ تولى أمر "زعمائه"! يوم السبت كانوا مليوناً ومئتي ألف في الشوارع، ربع السكان!!

أصبحت المعركة على الأرض بين من يملكون كل ثروات البلد ويتحكمون بقوانينه وبين من يضعون أجسادهم في مواجهتها، من عكّار في أقصى الشمال وحتى النبطية وبنت جبيل في أقصى الجنوب، والى بعلبك في البقاع حيث ربض داعش في الجوار.. هؤلاء الذين حاربوا الإرهاب وإسرائيل، يحاربون اليوم من يدّعي أنه أنهى حرمانهم واسترد أرضهم.. ليعود فيسرقها. ولم يعد لديهم ما يخسرونه، بل لديهم إحتمال بفرصة للحصول على حياة أفضل.

مقالات من لبنان

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

للكاتب نفسه

مسيرة شموع نساء لبنان

نغم شرف 2019-11-07

تحصل اليوم لحظات تغيير في السّاحة لن يفهمها أحد سوى النساء. لحظات اختراق، تفتّت لمفاهيم فُرضت علينا. ندرك اليوم في وسط تلك الساحات أنها ليست من قوانين الطبيعة، وأنها يمكن...