عاشت جماعة الإخوان أكثر من ثمانين عاماً تحلم بالوصول إلى السلطة. وما إن تحقق هدفها حتى بدأت سريعاً رحلة التراجع. أي أن ما فعلته كان صعوداً إلى الهاوية، سواء بسبب انكشاف عيوبها، من قلة الخبرة وسوء الإدارة، أو لاتضاح أن الممسكين بمقود الجماعة الآن ليسوا «الإصلاحيين» الذين قُدِّموا قبل الثورة إلى أجهزة الإعلام، وهم قلة، بل «المتشددين» المخلصين لأفكار سيد قطب. فـ«المعرض» كان شيئاً مختلفاً تماماً عن «الورشة».
سيد قطب: الناقد والشاعر، والمحتفي بالعدل الاجتماعي، ثم الناقم. تنقسم أعماله الى ثلاث مراحل، فيها الناقد والشاعر، ثم المفكرالإسلامي المنحاز إلى العدل الاجتماعي وجماليات النص القرآني، وأخيرا الحانق الناقم على كل شيء، الذي يرى الدنيا من ثقب إبرة، أو من كوة الزنزانة التى استقر فيها قبل أن يذهبوا به إلى المشنقة. يذكر الأدباء لقطب مرحلته الأولى بامتنان، وقالوا عنه إنه «أول من قدم نجيب محفوظ»، ويذكر المعتدلون مرحلته الوسطى وقالوا إن كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» سفْر لا يُبارى. وقد نسي المتزمتون هاتين المرحلتين واحتفوا بمرحلته الأخيرة وأشاعوا عنه أنه قال في آخر أيامه: لا أريد أن ينسب إلي مما كتبت سوى «معالم في الطريق»و»في ظلال القرآن».
حسن البنا مقروءاً في ظل التلمساني
وأما حسن البنا، الذي اغتيل في شباط/ فبراير من عام 1949، فقد كان على رأس الجماعة يوم انتشرت كتبه ورحنا نقرأها، رجل رائع رائق معتدل هو عمر التلمساني، نسمع عنه كل خير ونقدره، حتى لو لم نتبع خطاه. ثم سمعنا وشاهدنا ما جرى للجماعة بعد رحيله من الانتقال مجدداً من «الدعاة» إلى «القضاة»، ونسيان التربية التى تروم تسامي الأخلاق وامتلاء الأرواح، لحساب السياسة النازعة إلى المكر والدهاء والكذب والخديعة. كان البنا «منظماً» عبقرياً على الأغلب، وليس «منظراً» كبيراً، إلا أن حديثه عن الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي المتدرج كان لافتاً للانتباه، بقدر إمكانياته المبهرة في بناء شبكة اجتماعية متماسكة تقوم على أكتاف تنظيم صارم. وقد رفض الإخوان فى البداية أفكار سيد قطب، وكانوا يقولون «ليس منا». إذ إنهم ببساطة ضاهوها بما تركه لهم مؤسس الجماعة، فوجدوا الشقة واسعة بين من يسعى إلى التغيير الهادئ، الذى يقوم على «الحكمة والموعظة الحسنة» فى الغالب الأعم، وبين من يفكر فى حرق المراحل والقفز على السلطة من دون أن يكون المجتمع قد تهيأ بعد للفكرة التى يحملها فى رأسه وتؤرقه ويكرس عمره ليراها متجسدة فى الواقع المعيش.
تنظيم الإخوان هو الهدف
ومع الأيام صار التنظيم هو «البقرة المقدسة»، وتقدم «التنظيميون» المحتفون بتجربة أسلافهم فى «التنظيم الخاص»، حتى أمسكوا بتلابيب الجماعة وتحكموا بأموالها وهياكلها ومنهجها، وراحوا يتخلصون تدريجياً ممن يخالفهم الرأي والنهج داخل الجماعة. ولذا لم يجدوا غضاضة فى القفز إلى الكراسي الكبرى، من دون أن يعتنوا بالإجابة عن ثلاثة أسئلة: هل المجتمع تهيأ تماماً لقبول ما لديهم ولذا سيدافع عنه ويتمسك به إلى الأبد كما كان يحلم البنا؟ وهل يمكن أن يؤثر أداؤهم سلباً على صورة الجماعة التى أكسبتها تعاطف كثيرين أيام حكم مبارك؟ وهل يمكن أن يتراجع مستوى التدين فى مصر عموماً حين يرى الناس أن من ظنوا أنهم «رجال الله» أو «بتوع ربنا»، مثلما يقال على ألسنة العوام، هم فى السياسة شأنهم شأن من كان الإخوان ينعتونهم بالابتعاد عن شرع الله؟ وأن»الإسلام هو الحل» ليس سوى لافتة؟
حصاد الشهور الستة الماضية
ليـس إيجابياً
حصاد الشهور الستة التي ترأس فيها مرسي البلاد هو أن الإخوان لا يختلفون فى أدائهم عمن لعنوهم. فها نحن نرى اقتراضاً من صندوق النقد الدولي، وتقديم «أهل الثقة» على «أهل الخبرة»، والكيد للخصوم عبر إطلاق الشائعات وتسليط الكتائب الإلكترونية، وعدم الوفاء بالوعود والعهود، وممارسة الخداع على طريقة «ميكافيللي» أو «الآداب السلطانية»والسعي لإرضاء الولايات المتحدة، وإبقاء مصر تابعة للغرب، واحتضان بعض رموز نظام مبارك وتوزيرهم، والانحياز إلى القلة المحتكرة على حساب الكثرة التى تعاني شظف العيش. ووسط كل هذا ينكشف الإخوان أخلاقياً أمام الناس، بعد أن تجلى لهم الفارق بين ما يقال وما يتم فعله.
إن الذين صوتوا للإخوان فى الانتخابات التشريعية لم يصوتوا لمشروعهم وأفكارهم إنما اعتقدوا أنهم «مجموعة سياسية» يمكن الاعتماد عليها وبوسعها أن تساعد مصر فى الخروج من مرحلة الإرباك التى أعقبت الثورة. وأغلب من صوتوا لمرسي فى انتخابات الرئاسة فعلوا هذا ليس حباً فيه ولا في الأفكار التي يحملها، إنما نكاية في العسكر، وخوفاً من عودة نظام مبارك. وإلا لما تبنّى مسؤولو الدعاية فى الإخوان أنفسهم شعار «إعصر على نفسك ليمونة واختار مرسى»! وهذا معناه أن النبتة التي غرسها «البنا» وسعى إلى أن تكون شجرة فارعة وارفة الظلال لم تستو على سوقها بعد، إنما استطالت بفعل عوامل طارئة، لتصير هشة فى وجه الريح، أو تبقى مثل الثمار التى تنتفخ ورماً حين تمتص أنواعاً معينة من السماد، فتصبح غير مستساغة الطعم.
وبالطبع، فالزمرة التي تتحكم في جماعة الإخوان حالياً حرة في أن تغتال حسن البنا مرة ثانية بسن قلم سيد قطب، وهم مكلفون ومسؤولون وفق هذا الاختيار. أما الخشية حقاً فهي أن يدفع المجتمع المصري كله ثمن هذه التجربة.
«ضيعتموني»
إن السقوط الأخلاقي يسبق السقوط السياسي. هكذا قالت كل تجارب الحياة وسننها. فلو عاد الشيخ حسن البنا إلى الحياة سينظر في عين من يتربعون في غرور وزهو اليوم على عرش الجماعة التي كافح ومات في سبيل تأسيسها، ثم يقول لهم: ضعيتموني. ثم يغادرهم وبعضهم يعيد جملته القديمة التي أطلقها في وجه التنظيم الخاص الدموي الذي انحرف بالدعوة عن مسارها الصحيح: «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين».
في ظل انشغال الإخوان بالإجابة على سؤالهم الملحّ والقاطع والغارق في الأنانية والانتهازية: متى نهيمن على كل مفاصل الدولة؟ ينشغل كثيرون بالرد على سؤال أشد وقعاً ووطأة مفاده: هل يخرج الإخوان من التاريخ؟ ليولوا وجوههم شطر معطيات حقيقة على الأرض تقول بلا مواربة إن «الجماعة» على محك تاريخي، وأن استمرار تماسكها وتواصل نفوذها وحضورها السياسي والاجتماعي المتحكم لم يعد قضية موضع تسليم، وأن الآتي غير الآني وما ذهب.
تململ وضيق في صفوف الإخوان
ذات جمعة من جمع الثورة، وقف سلفيون في ميدان التحرير ليهتفوا ضد الإخوان ويتهمونهم بجني مكاسب على حساب الثوار، واستخدام دماء الشهداء والمصابين أوراقاً للتفاوض مع العسكر. واليوم بعضهم يصطفون معهم ضد فزاعة يستخدمها الإخوان لاصطيادهم مؤقتاً وهي «العلمانيين». فإن أوصلوهم إلى مرادهم سيتخلصون منهم في أول طريق. فهذا ما يعلمه رجل مثل الشيخ ياسر برهامي، في كثير من تصريحاته وأحاديثه. وتزداد حالة التململ وعدم الاقتناع بوضع شباب الجماعة في وجه الناس، فيستعر أوار الحيرة التي تسكن نفوس شباب الجماعة. بل أخذت الشكوك تساور بعض القيادات، في أن رحلتهم الطويلة قد بلغت «التمكن المريح»، مثلما اعتقدوا بعيد الانتخابات البرلمانية والرئاسية. كما أن الهوة مع أنصار عبد المنعم أبو الفتوح تتسع. فمشروعهم بدا للناس مفلساً، وقدرتهم على مواجهة مشكلات الواقع ضعيفة، وخبرتهم في إدارة الدولة ضئيلة، وخصومهم في ازدياد، واليوم ليس أمامهم من سبيل سوى «التغلب». وهذه بداية الخسران. إنه الغرور الذي يدفع أصحابه الثمن في النهاية، فتصوب السهام إلى أجسادهم من كل صوب، بعد أن كان مؤسس الجماعة يراهن على أن حب الناس لهم هو الذي سيدفعهم إلى القيادة، وأن جميعهم سيقبلون يد المرشد أو يبجلونه، بدلاً من أن يتهكمون عليه وعلى كل من حوله.
... وتغيّر في مزاجهم
قبل الثورة، كان الإخواني يتحدث بفخر عن انتمائه السياسي مدركاً أن الناس تراه مناضلاً أو ضحية أو مشروع شهيد. اليوم يأتي الشباب الى التحرير أو يعلقون على ما يكتب في صفحات التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، بادئين كلامهم بـ«أنا لست إخوانياً ولكن ...». وإذا اعترف أحدهم بانتمائه للجماعة، يقر بسهولة أن القيادات تخطئ، وأن المخاوف تزداد حيال المستقبل المنظور والبعيد، ولا يثق أي منهم في أن الشومة التي يمسكها في يده حتى يمنع الغاضبين من حرق مقرات الجماعة يمكن أن يحملها إلى الأبد، لا سيما بعد أن اختارت القيادة المتغطرسة طريق المواجهة.
لقد أخطأ رموز «النظام الخاص» وأتباع التفكير «القطبي»، ممن يمسكون برقبة الإخوان حالياً في تقدير الموقف، فتوهموا أن المصريين صوتوا لـ«مشروع الجماعة»، وأن لحظة تحصيل الحكم نهائياً قد جاءت، وأن العسكر الذين لا خبرة سياسية لهم، والقوى المدنية المبعثرة المتناحرة، لم يستطع أي منهما أن يوقف تقدم «الجماعة». فجاهروا في الداخل بالاستغناء والاستعلاء، وأرسلوا إلى الخارج وفوداً لطمأنة العالم حيال نظام حكمهم الذي بات على الأبواب. ولم يكن شيء من هذا صحيحاً، فالمدنيون فاعلون رغم تشرذمهم، والعسكر لم يخرجوا تماماً من الساحة بل احتفظوا بالكثير. بل هم عادوا إلى موقعهم في 24 يناير 2011، مع استبدال مرسي بمبارك، وجاء على رأسهم رجال ليسوا فارغي الرأس، يداهنهم الرئيس ويطمئنهم على حالهم ومالهم. ولم تتفكك شبكات النظام القديم، لأن الإخون المتعجلين إلى خطف الثورة والسلطة منحوهم من حيث لا يدرون قبلة الحياة، بل تحالفوا معهم مثلما نرى في وزارة هشام قنديل التي تزخر بثمانية من أعضاء أمانة سياسات جمال مبارك!