"صابرين.. سمّيني صابرين.. آدينا صابرين ع اللي إحنا فيه"، حدثتني وهي تضحك حينما كنا نتناقش في اختيار اسم مستعار -بناء على طلبها- أستخدمه عندما أكتب قصتها التي كانت تحكيها لي بحماس.
يبدو الصبر مفردة أساسية في الحياة اليومية لهؤلاء الفلّاحات. الصبر على الاستيقاظ في السَّحَر، وترك دفء البيت، الحقيقي والمجازي، والبعد عن الصغار لساعات طوال، والأحمال الثقيلة على الرأس والبدن، والقفز بين محطات القطارات، والتعامل مع الزبائن، وقضاء الحاجة في الحمام العمومي، والجلوس في تيار الهواء البارد الذي لا ينقطع..
كلّ صباح، حيث ينظّف بعض أصحاب المحال أمام محالهم، ويرتّب البعض اللآخر بضاعته على المناضد المنصوبة، تأتي عربة النقل المحمّلة بالخضار لتتقاطر عليها فلاحات السوق المعدودات، إلى جانب صابرين هناك صباح، سهير، هالة، عصمت.. يعجبني في الفلاحات أنهن يُعرفن هنا بأسمائهن، وليس أم فلان مثلاً، على الرغم من أنهن قادمات من الريف، وكأنه تعبير جمعي لا واع، يعكس الاعتراف بهن كشخصيات مستقلة ومعتدّة. يحمّل عامل العربة كلّ واحدة منهن أشولتها فوق رأسها، واحداً تلو الآخر، ليذهبن به إلى أماكن فرشهن المتفرقة على امتداد السوق. "بنشيل قدّ وزننا وأكتر، يعني أنا مثلاً 90 كيلو الشوال ممكن يبقى أكتر من كده". تقول صابرين.
تحية إلى "المارات" بقلب تجاربنا المريرة
08-03-2019
تعرف صابرين السوق جيداً، منذ أن كانت طفلة تأتي مع والدتها التي كانت تعول الأسرة بينما الأب كان مسنّا. يقولون الشقاء ميراث أنثوي. في البداية كانت تقضي الوقت في اللعب أو "فكّ الفلوس"، وبالتأكيد مراقبة ما يجري حولها. وسرعان ما تعلّمت وصارت تبيع وتكسب، وحلت محل أمّها بعد وفاتها وكانت لا تزال في الثانية عشرة من عمرها. "كنت صغيرة قوي بس كنت واعية محدش يقدر يضحك عليّ عشان نزلت السوق بدري". تقول صابرين إنها تنفق على أسرتها منذ أن كان عمرها 9 سنوات، "كل يوم كنت باجيب لابويا 20 جنيه في إيده" لينفق منها على البيت الذي يضم تحت سقفه العديد من الأبناء. ومن عملها أيضا "شوّرت نفسي وشوّرت أختي". (الشوار جهاز العروس).
في العشرين تزوجت، وانقطعت عن السوق عشر سنوات. كانت تقيم في منزل عائلة ممتدة، لكل أخ "شقة"، إلى جانب حميها وحماتها، وتتشارك زوجات الأبناء في أعمال البيت والحقل، بإشراف الحماة.
- زي فاطمة تعلبة (1) يعني؟
- أصعب من فاطمة تعلبة.
الصبر مفردة أساسية في الحياة اليومية لهؤلاء الفلّاحات. الصبر على الاستيقاظ في السَّحَر، وترك دفء البيت، الحقيقي والمجازي، والبعد عن الصغار لساعات طوال، والأحمال الثقيلة على الرأس والبدن، والقفز بين محطات القطارات، والتعامل مع الزبائن، وقضاء الحاجة في الحمام العمومي، والجلوس في تيار الهواء البارد الذي لا ينقطع..
حكت صابرين لي طويلاً عن المعركة التي خاضتها لأجل استرجاع وِرث أبيها (بضعة قراريط وبيت كانت قد أنفقت هى على إصلاحه وتجديده) بعد أن اشترى ابن عم لها مقتدر أنصبة إخوتها "بتراب الفلوس"، واستدانتها من حميها ومن صديقة مقرّبة لرد المال واستعادة الأرض والبيت. كما أخبرتني بأن حماها وزّع أرضه التي دخلت في مسلسل المباني على أولاده (الذكور) "على حياة عينه"، وأنها وزوجها قد قررا أن يبنيا بيتهما الخاص على نصيبه من الأرض وترك بيت العائلة.
ولردّ الدين وبناء البيت، قررت صابرين وزوجها النزول إلى السوق، لتستعيد مهنتها القديمة. ولكن الزوج مرض بعد عامين، وترك علاجه آثاراً على صحته فبات غير قادر على النزول معها والسفر يومياً من المحافظة التي تبعد عن الإسكندرية 4 ساعات، فصار عبء العمل عليها وحدها.
تستيقظ في الثالثة فجراً أو قبل ذلك بقليل، وتعود إلى بيتها في الثامنة مساء أو بعد ذلك بقليل. من عزبتها البعيدة تبدأ رحلتها اليومية حيث تركب إلى سوق طنطا تتسوق من التجار أوالفلاحين، تحمّل بضاعتها –كغيرها من الفلاحات- على عربة نقل، ثم تركب إلى محطة قطار طنطا، الذي يأخذها إلى الإسكندرية. والرحلة معكوسة في العودة. "امبارح صاحية 3 إلا ربع وراجعة 8 ونص بالليل، وأنا كلي رُوبَة (طين الشوارع جراء المطر)، لما الدنيا تشتي عندنا غير هنا، هناك الأرض كلها تبقى مطيّنة. قلت لمَلك (ابنتها الكبرى) تحضّر لي الحمام وتجهز لي الغيار، دخلت وخرجت نمت على طول، لا حضنت بنتي ولا قعدت مع ولادي ولا حكيت معاهم عن اللي عملوه طول اليوم من كُتر التعب".
على سَبَت خشبي جلستُ أمام فرشها أراقب، في بداية ممر ضيق كل بائعيه، باستثنائها، من الرجال. حُلوة صابرين، الجمال الفلاحي الطبيعي، عينان عسليتان وخدّان مورّدان وقوام يميل للامتلاء. تبدو محصنة جيداً ضد الشتاء فقد زرتها في يوم من أيامه القاسية، مطر وعواصف. مِعطف أسود وجلابيتان فوق بعضهما، بنطال وشراب وكيس بلاستيكي في القدم وحذاء رياضي أبيض اللون، يعود في الأصل لابنتها الجامعية. وفي اليدين قفاز بلاستيكي سميك. أما الرأس فمغطاة بأكثر من إيشارب، وإن بدا – على الرغم من ذلك- القرط الذهبي الدائري. هل هو ظاهر دون قصد، أم أن صابرين تعمّدت إظهاره كي لا تفقد كل علامة على أنوثتها، في بيئة السوق القاسية والذكورية؟ تربط ذيل جلابيتها برباط رفيع كي لا يعيق سيرها ولا يبتل من مياه الأرض، وفي رقبتها علّقت بحبل رفيع جراباً من القماش تضع فيه النقود وتخرجه من جلابيتها عند الحاجة. على يمينها ميزان عتيق، تقول إنه هو نفسه الذي كانت تستخدمه قبل زواجها، وإنها تحب الاحتفاظ بأشيائها القديمة وتشعر بالانتماء إليها.
يعجبني في الفلاحات أنهن يُعرفن هنا بأسمائهن، وليس أم فلان مثلاً، على الرغم من أنهن قادمات من الريف، وكأنه تعبير جمعي لا واع، يعكس الاعتراف بهن كشخصيات مستقلة ومعتدّة.
سبانخ سبانخ سبانخ، حمام يا سبانخ (تنادي على بضاعتها بصوتها المميّز وهي ترش عليها المياه من دلو بالأسفل كي تبقى نديّة)
الجرجير اللي تاكليه مش اللي تروّحي البيت ترميه، للي فلوسه حلال بس
عندي أحلى سلق في إسكندرية، واللي يقول غير كده كداب
تعالى ع الفلاحي، بتاع بلدنا
لصابرين شعبية في السوق وزبائن عديدون، من النساء والرجال، ومن طبقات مختلفة. هناك السيدات "الهاي" التي توصل لهن طلباتهن إلى سياراتهن الواقفة على الشارع العمومي، وهناك من تفاصل معها لتخفض السعر جنيهاً أو نصف جنيه. والجميع يُعزّونها ويسألون عنها. لم تتلق صابرين تدريباً ولكنها بالفطرة والاحتكاك صار لديها مهارات تسويقية كبيرة. إذا رأت سيدة واقفة من بعيد تنادي عليها "تعالي تعالي يا امّا". إن كان الزبون بلحية: اتفضل يا اخويا (تكسر الياء بلهجتها الفلاحي)، وإن كانت سيدة مسيحية: "كل سنة وانتم طيبين، المفروض تشتروا بقى بيض وجبنة عشان تعوضوا الكالسيوم اللي راح منكم" (خلال فترة صيامهم). تتصل بها إحدى زبوناتها التي أرسلت لها للتوّ طلباتها مع أحد شيّالي السوق فتردّ: التليفون نوّر. يمر بالصدفة أحد عمال السوق فيعلّق ضاحكا: بكّاشة!
- شاطرة أنت يا صابرين.
- لازم تضحكي في وشّ الزبون، عارفة لما أروح اتسوّق من طنطا لو البياع وشه كِشِر ما اشتريش منه، حتى لو شكله حلو.
تقول إنها تمتاز عن زوجها بهذه المهارات، لذلك كانت دائماً قادرة على الكسب أكثر منه.
متوسط ربحها اليومي 250 جنيهاً، وقد يزيد ل 400 أو 500 جنيه، ويمكن أيضاً أن يمر يوم ولا تبيع "وأبقى خسرت فلوس المواصلات ونقل الخضار والقعدة في السقعة من غير فايدة". وخسرت أيضا المبلغ الذي فرضه عليها محل الفاكهة المجاور لها، 1500 جنيه شهرياً، بواقع 50 جنيها في اليوم.
استطاعت صابرين من خلال فـَرْشها أن تسدّد دينها، وأن تبني بيتا من 4 طوابق، تقطن هي في الطابق الأرضي، "مجهزاه سوبر لوكس"، بينما تجهز لأبنائها الطوابق العلوية. الكبرى ملك في الجامعة، والصغرى رشا 4 سنوات.
تعتبر نفسها "ربّة الأسرة" فهي مصدر الدخل الأساسي ومن تدير الميزانية. يملك زوجها عدة قراريط مؤجّرة: "الأرض مش جايبة همها ولا ليها لازمة ما تبنيش مستقبل". قال لي عم مصطفى بائع الليمون في حديث منفصل، عندما سألته عن عمل النساء في السوق، هو الذي رفض أن تعمل زوجته أو أيّ من أبنائه في مهنته نفسها: "الست طالما جابت قرش جوزها ما يقدرش يكلّمها". ولكن صابرين تقول إن هناك قدراً كبيراً من التفاهم والثقة بينها وبين زوجها، وتقول إن هذا أساس الزواج الناجح. الأرض والبيت باسم الزوج، تقول إن هذا هو المفروض لأنه "الرجل" وكله سيؤول في النهاية لأولادهما. بينما تمتلك هي الأرض التي استعادتها من وِرث أبيها، ودفتر ادخار باسمها يعود تاريخه إلى ما قبل الزواج. لا يخلو الأمر أحيانا من توتر "أوقات يقول أنت ها تتكبري علينا إكمنّك أنت اللي بتشتغلي.. ساعتها باتجنبه".
بعد 40 يوماً من ولادتها عادت للنزول الى السوق وكانت تصطحب معها الرضيعة "كنت باحطها على مِشَنَّة (وعاء مسطّح من الخوص) واجيب لها الحفاظات بتاعتها والمرهم وكله، وأدخل أرضّعها عند دكان عم محمد (المجاور)". تقول إن اصطحاب الفلاحات لأطفالهن الرضّع أمر معتاد.
على تليفونها المحمول ذي الأزرار، تستقبل اتصالات الزبائن، وتتابع سير الأمور في منزلها البعيد.
- أيوه يا أبو ملك، الجو النهارده نوعاً أحسن من إمبارح، رشا عاملة إيه؟ ما تخليهاش تاكل من الدكّان.
تعب زوجها لم يزد عبء العمل على عاتقها فقط فصار عليها النزول إلى السوق يومياً، بل صارت أيضاً تتعرض لتحرّشات لفظية من الزبائن والبائعين الآخرين على حد سواء "اللي زيّك ما تشتغلش، المفروض تتحطي في فاترينة، يا ريتك كنتِ مراتي..". في الحمام العمومي القريب، المخصص أصلاً لرجال السوق، تقضي صابرين حاجتها وتتوضأ "باتوضى في الحمام نفسه مش في الأحواض اللي برّه"، وتصلي على كرسيها الخشبي بجوار فرشها، بعد إصابتها في ركبتها عندما وقعت من على رصيف المحطة وهي تنقل "حلّة الجبنة"، التي تأتي بها من بيوت عِزبتها. هذا إلى جانب آلام الظهر. أما المغرب والعشاء فتصليهما جمْعاً في مسجد المحطة لأنها تكون على سفر.
عندما كانت حاملاً بابنتها الصغرى، ظلت تمارس عملها حتى الأسبوع الأخير قبل الولادة، وحتى وهي حامل كانت تحمل الأشولة!
- أعمل إيه؟
- مفيش راجل يشيل؟
- لا مفيش.
وبعد 40 يوماً عادت للنزول وكانت تصطحب معها الرضيعة "كنت باحطها على مِشَنَّة (وعاء مسطّح من الخوص) واجيب لها البامبرز بتاعها والمرهم وكله، وأدخل أرضّعها عند دكان عم محمد (المجاور)". تقول إن اصطحاب الفلاحات لأطفالهن الرضّع أمر معتاد. اضطرت لأن تفطمها مبكراً حيث كانت تغيب عنها 14 ساعة يومياً، وكانت ابنتها الكبرى هي من تعتني بها في غيابها. لدرجة أنها تناديها "ماما". تتحمل الابنة مهام المنزل، وتؤدّيها صابرين في أيام إجازاتها القليلة.
ورغم ما حققته من نجاح مادي، تتمنى صابرين لو "تتستت وتقعد مع عيالها"، "مفيش ست ما تحبش تتستت وترتاح"، ولكنها راضية، ترى القدر هو من حدّد لها طريقها، منذ أن كانت طفلة إلى الآن. حتى ابنتها الجامعية لا تريد لها أن تتوظف بعد تخرجها، تريد أن يكون زوجها هو من يشقى.
سوف تكفّ عن العمل وتمكث في بلدها، الذي ترى المعيشة فيه أفضل لأبنائها لأنه لا يزال محافظاً على التقاليد بعكس مجتمع الإسكندرية، حينما تكمل تجهيز الطابق الخاص بابنها، وحين تزوّج ابنتها، وتؤمّن مستقبل البنتين الأخريين بمبلغ جيد. تريد لأبنائها مستقبل أفضل من ماضيها وحاضرها، وأن يحققوا ما عجزت هي عن تحقيقه لنفسها، "كان نفسي أتعلم وأبقى حاجة وألبس كويس، فيه ناس بتعاملني بتكبّر، زبونة ولا سواق تاكسي مايرضاش يقف، وأشتغل موظفة وأرجع لعيالي الساعة 2 أعمل الحاجة وأقعد معاهم، أحكي معاهم وآخدهم في حضني، عشان كده قلت لملك كل اللي أنت عايزاه أنا كفيلة بيه، اللي أنا ماحققتوش لنفسي عايزة أحققه ليكي". ضعف إمكانيات أسرتها الأولى، وسوء معاملة المدرس الذي كان يريد أن يجبر التلاميذ على أخذ درس خصوصي، حالا دون استكمالها تعليمها، "كرهت المدرسة بسببه..
ما انساش أمي موّتتني من الضرب عشان اخترت شبشب ب15 قرشاً بدلا من آخر ب10 قروش، دلوقتي ملك (ابنتها) كل شويّة تشتري كوتشي (حذاء رياضي)". تحضر ملك في أحاديثها دائماً، عن امتحاناتها في الجامعة، وعن حبها للقراءة وجلساتهم العائلية التي تحكي لهم فيها عما قرأته، وعن زيارتها لمعرض الكتاب...
حدثتني كثيراً عن حزنها لبعدها عن أبنائها، وشعورها بتأنيب الضمير لأنها اضطرت بالأمس لطردهم من غرفتها حتى تنام مبكرا لتتمكن من بدء يوم عمل جديد في اليوم التالي.. لا تلبث الرحلة أن تنتهي لتبدأ من جديد. زادها في كل مرة، على تعاقب الليالي والنهارات، الحبّ.. والصبر.
1- مسلسل "الوتد" حيث أدت هدى سلطان دور فاطمة تعلبة، الأم المصرية التي تسير أمور بيتها بحزم وتقرر كل شؤونه.