منذ أيام، تضجّ مصر، إلى جانب همومها الكثيرة، بنيّة الحكومة بيع مبنى "ماسبيرو"، أحد معالم القاهرة وفخر صناعة الإعلام في "المحروسة"، الذي شيّده عبد الناصر بمناسبة الذكرى الثامنة لثورته. إنها محاولة لإلغاء التاريخ ومحو الذاكرة، وعلاوة عليهما شكل للنكاية بل وحتى الثأر الرمزي. وهذه الأمور جزء من سمات المرحلة التي بدأت مع أولى الانتفاضات العربية، وأغلب الظنّ انها لا تزال بعيدة عن الوصول إلى مآل راسٍ. فإلى جانب سيادة العنف، وصعود الحالة الاسلامية، والحراك الجماهيري التغييري المتواصل، والنقاشات غير المنضبطة حول الشكل المطلوب للدول، وفوبيا التقسيم، وولادة الأحزاب الجديدة... تطلّ "النكاية" عند كل منعطف، كسلوك وكموقف لدى الحكّام الجدُد، كما عند المعارضين و"الشعب" و"الشعب الآخر". بل باتت شيطنة الطرف الثاني هي القاعدة، حتى في تحديد السياسات الرسمية.
ليست النكاية في السياسة سوى الإسم الحركي لسلوك ومنهج قائمَين على ردّة الفعل لا الفعل، لغياب المشروع لا لوجود البرنامج في الاجتماع والاقتصاد والإدارة... أي في السياسة بمعناها الأوسع. الأكيد أن النكاية هي من نتائج التصحُّر الثقافي والفكري والسياسي الذي عمّمته الأنظمة الاستبدادية التي قامت. تصحُّر لم تقتصر سمومه على حظر الأحزاب والتيارات والفكر الحرّ، بل طال أيضاً منع تخيّل البدائل وإنتاج الأفكار. وقد ظلّ تعاطي شعوبنا مع الأفكار، يجري لفترة طويلة، وفق قانون "الاستضافة" من دون سجالات ولا نقاشات علنية: نمضغها، ونقاربها بشكلية أي بسطحية وجزئية، ثم نرميها لنبحث بعدها عن غيرها.
هكذا صرنا نعرف الى حدٍ ما، ما لا نريده، وبقيت الصعوبة تكمن في قول ما نريده، في بلورة مشروع وبرنامج للمجتمعات وللحكم. عُطب استغلّه الاسلاميون، ولا يزالون، خير استغلال للوصول إلى السلطة في عواصم عربية عدّة، بما أنّ شعار "الاسلام هو الحل"، رغم غموضه وتبسيطه، فقد أتاح للتيار الاسلامي العريض جذب شريحة كبيرة، لا يمكن حصرها بالطبقتين الدنيا والوسطى، تحديداً لأنه يحاول قول شيء ما، أو يحدّد ملامح برنامج معيَّن. انجذاب ما كان ليحصل لولا غياب اليسار العربي الذي بات يختار بين المواقف المطروحة أصلاً، بعدما كان ينتج الأفكار والبرامج...
لا تنضب الأمثلة على امتهاننا النكاية السياسية. يخبرك معارضون من البحرين والسعودية، كيف انّهم باتوا شبه منبوذين في مجتمعاتهم المعارِضة أيضاً، لا لسبب سوى لتأييدهم الانتفاضة السورية. عمليّة حسابيّة بسيطة تنتهي بمعادلة أقلّ ما يُقال فيها إنها سخيفة: النظامان السعودي والبحريني مؤيّدان جداً للمعارضة السورية ولإسقاط الأسد، بالتالي، وبما أنّ مبدأ "عدوّ عدوّي هو صديقي" هو من سلالة النكاية، فإنّ الخلاصة تفيد بضرورة تأييد النظام في دمشق! ولدى أهل البحرين ما يزيدونه على نظرائهم السعوديين في هذا الخصوص، إذ يجزمون بأنّ عدداً كبيراً من عناصر الشرطة البحرينية ممّن يقتلونهم ويقمعونهم يومياً، هم من السوريين (السنّة) المنفيين، المجنّسين في المملكة الخليجية، خصوصاً في حقبة ما بعد مجزرة حماه، أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات. هذا مثال على سلوك شعبي لا يُستهان به. رسميّاً، لا تُحصى الأمثلة المضحكة ــ المبكية. أما على صعيد المثقّفين، فيظنّ المرء أن الوضع سيكون أفضل، لتتفاجأ بفنّانين ومفكرين شيوعيين في لبنان، يُسألون عن موقفهم من الثورة السورية، فلا يجدون في محاولة ردّهم إلا إعادة السؤال لصاحبه: "كيف تكون الأحداث (جيّد انهم لم يقولوا "الأزمة") في سوريا ثورةً، بينما تؤيّدها قوى 14 آذار في لبنان"!؟ عاش الديالكتيك.
فكرة
نكاية؟ عاش الديالكتيك
منذ أيام، تضجّ مصر، إلى جانب همومها الكثيرة، بنيّة الحكومة بيع مبنى "ماسبيرو"، أحد معالم القاهرة وفخر صناعة الإعلام في "المحروسة"، الذي شيّده عبد الناصر بمناسبة الذكرى الثامنة لثورته. إنها محاولة لإلغاء التاريخ ومحو الذاكرة، وعلاوة عليهما شكل للنكاية بل وحتى الثأر الرمزي. وهذه الأمور جزء من سمات المرحلة التي بدأت مع أولى الانتفاضات العربية، وأغلب الظنّ انها لا تزال بعيدة عن الوصول إلى مآل
للكاتب نفسه
«شجرة فوبيا»
أرنست خوري 2013-11-27
قام تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» (داعش) يوم الجمعة الماضية (22 تشرين الثاني/نوفمبر) بقطع «شجرة الكرسي»، وهي شجرة بلّوط تقع قرب بلدة أطمة السورية، يزيد عمرها عن 160 عاماً،...
ليبيا وضحكة القذّافي
أرنست خوري 2013-11-13
لم يعد لرئيس الحكومة الليبية علي زيدان ما يجرّبه في محاولة إحكام قبضة سلطةٍ مركزيةٍ ما على جزء من أراضي البلاد، إلا التلويح بورقتين انتحاريتين خارجتين عن نطاق الصلاحيات النظرية...
هكذا تكلّم "الصندوق"
أرنست خوري 2013-10-30
أخيراً، خرجت البشارة من بيانات صندوق النقد الدولي: أعلى معدلات نمو اقتصادي في أفريقيا (وربما في العالم) للعام 2013، سجّلتهما ليبيا (16.7 في المئة) ودولة جنوب السودان (69.6 في المئة!)....