«يا قافلة عاد المراحل طوال / وعاد وجه الليل عابس/ يا قافلة صفي صفوف الرجال / واستنفري كل الفوارس / قولي لهم عاد الخطر ما يزال / لا تأمنوا شر الدسائس» (*)
في 10 نيسان/أبريل 2013، اتخذ عبد ربه منصور هادي، الرئيس الموقت للجمهورية اليمينة، قراراً بإبعاد العميد أحمد علي عبد الله صالح من قيادة الحرس الجمهوري (وتعيينه سفيراً لدى الإمارات العربية المتحدة)، وإبعاد الجنرال القوي علي محسن الأحمر من قيادة الفرقة الأولى مدرع والمنطقة العسكرية الشمالية الغربية (وتعيينه مستشاراً لرئيس الجمهورية لشئون الدفاع والأمن). وعيّن الرئيس قادة للمناطق العسكرية السبع التي كان قد أصدر قراراً في كانون الاول/ ديسمبر 2012 بتقسيمها، واتخذ قراراً بإعادة نشر قوات الفرقة الأولى مدرع خارج العاصمة صنعاء، وتحويل معسكرها في العاصمة إلى حديقة عامة... بالفعل.
وهو تمكن من ذلك كله، بعد سنتين من ممانعة القوى النافذة، تلك التي تنتمي الى النظام القديم، وتلك التقليدية التي «أيدت» الثورة. فقد عبر البيان الختامي لجلسة العمل الاولى من جلسات مؤتمر الحوار الوطني (التي انعقدت بين 18 آذار/مارس و3 نيسان/ابريل) عن توازن جديد للقوى. وهو أكد على كل القضايا التي ناضلت من أجلها القوى المدنية منذ بداية الثورة في شباط/ فبراير 2011، وفي مقدمها هيكلة الجيش. وصياغة توازن القوى الجديد ذاك جرت بتمهل وفي خضم الصراعات.
ثورة الشباب
عندما أعلن الأمين العام المساعد للحزب الحاكم (سلطان البركاني) في أخر كانون الاول / ديسمبر 2010 عن رغبة الحزب الحاكم بإلغاء تحديد عدد الولايات الرئاسية، أو «قلع العدَّاد» بحسب تعبيره، ساد شعور عام في أوساط الجماهير اليمنية بضرورة الثورة على النظام، وإسقاطه (أو قلعه!) عبر هبة شعبية. وقد شكل طلاب جامعة صنعاء كتلة حرجة لهذه الثورة، فأعلنت المنظمة الطلابية للحزب الاشتراكي اليمني بجامعة صنعاء في بيان لها بعد ايام على ذلك التصريح، في مطلع 2011، الثورة على النظام، أو ما عرف بالثورة الطلابية.
واستطاع الطلاب خلال ثلاثة أسابيع فقط تعبئة القوى المدنية عموماً، والشباب بشكل خاص، لإعلان ثورة شعبية على النظام، انطلقت من ساحة الحرية بمدينة تعز وظلت تسمية الثورة الشبابية ملازمة للثورة اليمنية حتى اليوم، على الرغم من التحاق الجماهير اليمنية من كل الاعمار والأطياف الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية، بساحات الحرية وميادين التغيير التي أسسها الشباب في 17 محافظة من المحافظات اليمنية. وتراجع حينها معظم الجنوبيين عن رفع شعار «فك الارتباط»، ورفعوا بدلاً عنه شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». وتأسست ساحات للحرية وميادين للتغيير في كل المحافظات الجنوبية، وانخرط في الثورة شباب «أنصار الله» (جماعة الحوثي). وفي 21 آذار/مارس 2011، استكمِل تشكّل الكتلة التاريخية للثورة، عندما أعلنت النخب الدينية والقبلية والعسكرية والسياسية دعمها لها (وليس انضمامها إليها)، وغدت ساحات الحرية وميادين التغيير قبلة لكل هذه النخب، تتسابق على منصاتها لإعلان تبرؤها من النظام، وتطهرها من أفكاره وممارساته ومشاريعه، وتدبيج خطب المديح للشباب والقوى المدنية. وتأكيداً لدور الشباب والقوى المدنية في الثورة، لم تتحرج هذه النخب من استخدام تسمية «ثورة الشباب»، وأطلقت على نفسها اسم «أنصار الثورة»، وتعهدت بحماية شباب الثورة ودعم ثورتهم حتى إسقاط النظام وبناء الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة. وعندما اتهم الرئيس السابق النخب التقليدية بأنها سوف تسرق ثورة الشباب، حلف بعضهم أيماناً غلاظاً بأنه لن يسرق الثورة، وتعهد اللواء علي محسن الأحمر بأنه سوف يتقاعد بعد إسقاط النظام، وسوف يحول معسكر الفرقة الأولى مدرع إلى حديقة عامة. وعندما اشترط الرئيس السابق علي عبد الله صالح خروجاً متزامناً من اليمن له وللجنرال علي محسن الأحمر والشيخ صادق الأحمر، وافق هذان الأخيران على الخروج المتزامن، الأمر الذي عزز ثقة القوى المدنية بحتمية انتصار الثورة، وعزز إيمانها بأن السبيل الوحيد لإسقاط النظام هو الانتفاضة الشعبية، فرفعت شعار: «لا تفاوض لا حوار / استقالة أو فرار»، مستحضرة مقولة المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي حول «حرب الحركة»، لا سيما في ظل نجاح الجماهير المصرية في إجبار حسني مبارك على تقديم استقالته، وفرار زين العابدين بن علي عند وصول جماهير الثورة التونسية إلى العاصمة تونس.
خطابات النيات وحدها لا تكفي
على الرغم من خطابات النيات الحسنة التي أعلنت فيها النخب التقليدية عن دعمها للثورة، والتي استمرت في تدبيجها حتى اليوم، وآخرها التباكي على تدني نسبة تمثيل الشباب في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، إلا انها على مستوى الممارسة نصَّبت نفسها وصية على الثورة، وأقصت الشباب عن مواقع صناعة القرار الثوري. فمنذ الأسبوع الأول الذي أعلنت فيه عن دعمها للثورة، راحت تتفاوض باسم الثورة مع بقايا النظام، ومع الفاعلين والوسطاء الإقليميين والدوليين، من دون التشاور مع شباب الثورة والقوى المدنية. ووقعت على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية دون تفويض من الثوار في ساحات الحرية وميادين التغيير. بل أن هذه النخب راحت تمارس أشكالاً من الهيمنة والتحكم (بشكل مباشر أو غير مباشر) على المسيرات الاحتجاجية الثورية، فحظرت أي مسيرات تتجاوز شارع الزبيري الذي صار يمثل حداً فاصلاً بين صنعاء الشمالية حيث السيطرة لقوات وميليشيات «أنصار الثورة» وصنعاء الجنوبية التي تسيطر عليها قوات وميليشيات «بقايا النظام». ومنعت مشاركة «الحرائر» (النساء) في المسيرات الثورية.
بينت التطورات التي شهدتها الفترة الانتقالية أن إعلانات النيات وحدها لا تكفي، فقد باتت الثورة تعاني مقاومة مزدوجة، مقاومة من خارجها يقودها بقايا النظام العائلي، ومقاومة من الداخل تقودها النخب التقليدية التي تريد إسقاط بعض أشخاص النظام، والحفاظ على مؤسساته وتشريعاته، واستغلالها لتحقيق مكاسب خاصة. فمنذ التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية وإجراء الانتخابات الرئاسية التوافقية التي أوصلت عبد ربه منصور هادي إلى رئاسة الجمهورية، تراجعت بعض هذه النخب عن تعهداتها للثوار، وراحت تتسابق على ملء فراغ سقوط بعض أشخاص النظام من مواقع المسئولية في المؤسسات المدنية والعسكرية، وتقاوم أي تغيير للموالين لها، لا سيما في المؤسسات العسكرية، إلى درجة باتت معها تعرقل استكمال هيكلة القوات المسلحة تماماً مثلما يقاومها بقايا النظام. واستخدمت أساليب النظام السابق في تفتيت المجتمع من أجل ضمان بقائها وبقاء الموالين لها في مواقع السلطة، والحفاظ على مصالحهم السياسية، ما أجج النزاعات المذهبية والطائفية والمناطقية.
هذه التحولات أعادت رسم خارطة توزيع القوة السياسية والعسكرية، وأعادت ترتيب قضايا الصراع بين أطراف النظام السياسي اليمني. فلم يعد الصراع بين الكتلة التاريخية لقوى الثورة وبقايا النظام فقط، بل برز تباين وصراع بين بعض قوى الثورة، وتباين وصراع بين قوى النظام السابق، وتغيّر في مواقع بعض القوى من الطرفين. فتم إبعاد شباب الثورة عن موقع قيادة قوى الثورة، وحلت النخب السياسية والقبلية والعسكرية محلها، وبدأ بعض الثوار في اتهام البعض الأخر بالتحالف مع الرئيس السابق، أو التنسيق معه على الأقل، وراحوا يتصرفون بمنطق رد الفعل والثأر السياسي على حساب تحقيق أهداف الثورة. وبات الرئيس «التوافقي» عبد ربه منصور هادي هدفاً لضغوط كل الفرقاء وتعنتهم، بل وابتزازهم، بما في ذلك بعض أنصار الثورة. فكل قرار من قراراته يقابل بالرفض أو النقد من قبل فريق من الفرقاء السياسيين. فعندما أصدر الرئيس حزمة قرارات في أطار هيكلة القوات المسلحة في كانون الاول/ ديسمبر 2012، أعلن الجميع التزامهم بها واستعدادهم لتنفيذها دون شروط. إلا أنهم على مستوى الممارسة قابلوها بالرفض والتمرد، سواء في ذلك بقايا النظام وأنصار الثورة. ولا تختلف ردود فعل هذه القوى على قرارات الرئيس هادي بتعيين مسئولين مدنيين.
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
«لا بد من صنعاء وإن طال السفر»، عبارة يرددها عادة اليمنيون للتعبير عن تحديهم للصعوبات والعقبات التي تقف في طريق تحقيق أهدافهم. ويبدو أن القول المأثور اصبح شعاراً للقوى المدنية. فالتطورات التي شهدتها اليمن خلال العام 2012 ولدَّت اقتناعاً لديها بأن الطريق نحو تحقيق أهداف الثورة طويل، وأن المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي كانت ترفضها، ربما تحقق للثورة ما يمكن أن تعجز عن تحقيقه عبر إسقاط النظام بهبة شعبية، وتكرس نموذجاً يمنياً متفرداً بين ثورات الربيع العربي. فعلى الرغم من البطء في تنفيذ مهام المرحلة الانتقالية، وما سوف يترتب عليه من تمديد للرئيس التوافقي، وتأخير للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا أن القوى المدنية قد استطاعت تحقيق بعض المكاسب الجزئية. ففي ظل البنى الاجتماعية السائدة، والأطر الثقافية، والظروف السياسية، والأوضاع الاقتصادية القائمة في اليمن، تغدو «الثورة البطيئة» الأسلوب الأكثر ضماناً للتحول الديمقراطي وبناء الدولة المدنية. وهو ما توصلت إليه القوى المدنية بعد أكثر من عامين من الثورة. فقد باتت على قناعة بأن إسقاط النظام بشكل سريع وعبر هبة شعبية كان من شأنه أن يمهد الطريق لاستبدال نظام ديكتاتوري بنظام ديكتاتوري آخر، فيتم استبدال الدكتاتورية العسكرية بديكتاتورية عشائرية أو ديكتاتورية مذهبية، أو حتى بديكتاتورية عسكرية أخرى، لاسيما إذا استطاعت النخب التقليدية داخل النظام وخارجه حرف المسار السلمي للثورة، وتمكن «أنصار الثورة» من جر النظام، أو استطاع هو جرهم، لمواجهة عسكرية قبل سقوطه، وهو أمر كان الطرفان يسعيان إليه، لولا حادث تفجير مسجد دار الرئاسة الذي أصيب فيه الرئيس السابق علي عبد الله صالح.
مساران متوازيان
منذ توقيع القوى التقليدية على المبادر الخليجية وآليتها التنفيذية، التي منحت الرئيس السابق حصانة قانونية وقضائية مجانية، تبين للقوى الثورية المدنية أن الثورة البطيئة هي الآلية الملائمة لبناء الدولة المدنية. فالتركيب الاجتماعي التقليدي لا زال فاعلاً ومؤثراً، والبنى القبلية والعلاقات الاجتماعية والسياسة الزبائنية، لا زالت قوية وتشكل عائقاً أساسياً يحول دون إنجاز أهداف الثورة، الأمر الذي يفرض عليها (أي على القوى المدنية الحديثة) العمل على مسارين متوازيين: مسار سياسي ومسار اجتماعي، أو مسار الثورة السياسية لتغيير النظام السياسي، ومسار الثورة الاجتماعية لتغيير البنى والعلاقات الاجتماعية، والمساهمة في تشكيل وعي اجتماعي وسياسي مدني حديث.
لقد ظهرت بوادر مشجعة لجهود القوى المدنية خلال الجلسة العامة الأولى لمؤتمر الحوار الوطني الشامل، حيث انقسم أعضاء المؤتمر انقساماً أفقياً إلى فريقين، فتقاربت القوى التقليدية من كل الاتجاهات بعضها مع البعض الأخر، وتقاربت القوى المدنية على اختلاف انتماءاتها السياسية والمناطقية والمذهبية. وقد استطاع الشباب والقوى المدنية تحقيق مكاسب مهمة في انتخابات رئاسة فرق العمل، تؤهلها لممارسة تأثير قوي على عملية صناعة القرار خلال أعمال المؤتمر الذي يستمر اشهراً، بوصفه آلية الانتقال. والقرارات التي أمكن للرئيس هادي اتخاذها اثر تلك الجلسة الاولى وبيانها، تشكل خطوة تأسيسية مهمة في مجال بناء الدولة المدنية، فقد كانت مراكز القوى العسكرية تشكل واحدة من أهم المعوقات بوجهها خلال العقود الثلاثة الماضية.
(*) من قصيدة كتبها الشاعر مطهر الإرياني بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 وأنشدها الفنان علي عبد الله السمة