جاء وقع القبض على ماهينور المصري هذه المرة على أسرتها وأصدقائها مريراً، مقبضاً ومحزناً على الرغم من تعدد الاعتقالات (أربع مرات) والحبس، وذلك بسبب معرفتهم بأنها فعلاً لا علاقة لها بالدعوة أو بالحشد للمظاهرات الحالية أو لأي مظاهر اعتراض، وأنها التزمت الصمت لضبابية المشهد، وكانت فقط تقوم بواجبها كمحامية لزميلها المحامي عمرو نوهان. تسببت تفاصيل القبض عليها بإثارة الغضب، إذ تعرضت للاختطاف في ميكروباص من أمام مقر نيابة أمن الدولة في التجمع الخامس شرق القاهرة، بواسطة ثلاثة أشخاص بملابس مدنية، ولم يُحدد مكانها إلا عصر اليوم التالي حين عُرضت على النيابة.
يُشار إلى ماهينور المصري إعلامياً بصفات عديدة لا تحبها. هي لا تحب الكلام عن شخصها بشكلٍ عام ولن تحب هذا النص قطعاً، لكنها محاولة لتذكر وتوثيق بعض جهود شابة مصرية (غير) عادية، في وقت غير عادي.
ماهينور معروفة كمناضلة سياسية صلبة، أو فلنلجأ إلى المصطلح الأحدث والأحسن سمعة: "مدافعة عن حقوق الإنسان". لكنها أيضاً ناشطة مدنية في عدة مجالات أخرى ربما كانت أقل شهرة، ومهتمة بالثقافة والفنون.
بدأت فكرة "نماذج المحاكاة" (1) مع نهاية التسعينات الفائتة كنشاط تعليمي غير رسمي في الجامعة الأمريكية وجامعة القاهرة. وفي الإسكندرية بدأت الفكرة عام 2005 كنشاط للمجتمع المدني يقوم به شباب جامعيّون، سواء كانوا من الطلبة أو الخريجين الجدد. وكانت ماهينور التي درست الحقوق في جامعة الإسكندرية وتخرجت من الشعبة الإنجليزية عام 2006 من المشاركين في ثاني نموذج محاكاة عُقد في المدينة في عام تخرجها، حيث كانت عضواً في اللجنة الأكاديمية لنموذج تحالف الحضارات. بلورت ماهينور في هذه الفترة مهارات البحث والتواصل والمناظرة، حيث كانت مسؤولة عن اختيار المندوبين وتدريبهم وتأهليهم، بالإضافة إلى بعض المهام اللوجيستية والتنظيمية.
يُشار إلى ماهينور المصري إعلامياً بصفات عديدة لا تُحبها. هي لا تحب الكلام عن شخصها بشكلٍ عام ولن تحب هذا النص قطعاً، لكنها محاولة لتذكّر وتوثيق بعض جهود شابة مصرية (غير) عادية في وقت غير عادي.
شهدت تلك الفترة ازدهاراً للمجتمع المدني الشبابي في الإسكندرية، عزّزه افتتاح مكتبة الإسكندرية الجديدة ونشاط المراكز الثقافية الأجنبية فيها. وجاء تأسيس مبادرة "أدوار" لتجمعَ هؤلاء الشباب من مختلف التوجهات والخلفيات العلمية. كانت ماهينور عضواً في "أدوار" لفترة طويلة، وساهمت في العديد من المناقشات الجادة والمطولة حول موضوعات مختلفة. وهي أظهرت في هذه الفترة اهتماماً خاصاً بالاقتصاد السياسي، وأتذكر أيضاً اهتمامها بأمل دنقل، واقتباسها الكثير من أشعاره. كما ساهمت في مجلة "أدوار" بموضوع هام وتأسيسي عن أهالي "المفروزة" (2)، ربما كان بداية خبرة كبيرة مع الأهالي والسكان من مختلف المناطق والطبقات. سمح لها لاحقاً بتطوير نظرتها ومقاربتها الخاصة للتعامل "منخدعهمش لكن منمثلش عشان بيحسوا وبيعتبروها إهانة".. تسترسل في حوار معي لا أتذكر تفاصيله الآن لكني أتذكر عبارتها جيداً: "يعني مثلاً أنا مش محجبة، مش هروح للناس حاطة طرحة على راسي، لكن ممكن ألبس قميص واسع وألم شعري". اختصاراً: لا تتعالى، لا تقلل من ذكاء الآخرين، لا تستفزهم، ولا تحاول تقليدهم. حاضر يا ماهي.
حتى عندما لم تسمح لها الظروف بالانخراط في مبادرة "أدوار" أكثر ولفترة أطول (لأن "أدوار" ما لبثت أن أصبحت حياة موازية بالكامل من ناحية، ولأن ماهينور كانت قد بدأت في التردد على مظاهرات "حركة كفاية" التي ظهرت عام 2004، ثم الانخراط بشدة مع الطيف الذي كان يمثلها سياسياً في هذه الفترة، "حركة الاشتراكيين الثوريين")، ظلت ماهينور صديقة مخلصة ل "أدوار"، تحضر الفعاليات لكنها تأسف لأنها لم تتمكن من المشاركة في التحضير، ولكنها تشارك في الأنشطة الاجتماعية من أعياد ميلاد، أو رحلات ترفيهية.
أتذكر عبارتها جيداً: "يعني مثلاً أنا مش محجبة، مش هروح للناس حاطة طرحة على راسي، لكن ممكن ألبس قميص واسع وألم شعري". اختصاراً: لا تتعالى، لا تقلل من ذكاء الآخرين، لا تستفزهم، ولا تحاول تقليدهم. حاضر يا ماهي!
مع "الاشتراكيين الثوريين" ساهمت ماهينور في العديد من الأنشطة السياسية، لكنها كانت مهتمة أيضاً بالتثقيف والتشبيك والتواصل، وهو ما حرصت عليه طوال عملها وكان شغلها الشاغل. وإلى جانب كل هذا، كانت تشارك بالكتابة والتحرير في الجريدة الناطقة باسم الحركة: "الاشتراكي". وكان مشهداً مألوفاً أن تُخرِج من حقيبتها نسخاً من الجريدة للمهتمين. أدركنا بعد عدة أعداد أنها للبيع (حتى لو بمبلغ زهيد) وليس للتوزيع المجاني كما كانت تجعلنا نعتقد.
حقوق سجينة ببلاد حزينة.. قصص من عنابر النساء
10-06-2019
بعد الثورة وسيولة المجال العام، أسست ماهينور مع آخرين "مركز الصندرة الثقافي" كمركز ثقافي شعبي في الإسكندرية بجهود ذاتية في شباط/ فبراير 2012، حيث شاركت بفاعلية في تنظيم العديد من الأنشطة، من ورش فنية وتعليمية، ومكتبة ونادي كتاب، وكانت تدير مناقشات أسبوعية حول كتب في مجالات مختلفة: تاريخ وفكر وسياسة وأدب وفن وغيرها، وعروض أفلام، ومناقشات وندوات استضافت العديد من الأدباء والفنانين والسياسيين. كما شاركت حينها في إطلاق جريدة "العاصمة الثانية" كمحاولة لتأسيس صحافة شعبية لامركزية جديدة، خاصةً بعد انحسار موجة الصحافة المستقلة في الإسكندرية (تحديداً جريدتا الشروق والمصري اليوم).
وبالتوازي، عملت ماهينور على العديد من القضايا الحقوقية والمدنية. لم تكن من معسكر "مش وقته" و"لا صوت يعلو فوق صوت الثورة". دشنت ماهينور مع آخرين - إناثاً وذكوراً - حركة نسوية لم يُكتب لها الاستمرار، أطلقوا عليها "نسوية لحد ما تُفرج" كاسم مؤقت، حيث لم يتسنَّ لهم الاستقرار على اسم ثابت، وكانت باكورة فتح نقاش عام حول التحرش الجنسي. كما دافعت ماهينور بشجاعة وجرأة عن الحريات المدنية والشخصية التي آثر العديدون تنحيتها جانباً لعدم تهييج الجمهور من المحافظين. فقد تحدثت علناً عن حرية الاعتقاد والعبادة والفكر والملبس وغيرها بما يتماشى مع الدساتير والقوانين والأعراف.
مع اندلاع الثورات وحركات الاحتجاج الواسعة في مختلف البلاد العربية، استمرت ماهينور بما كانت تفعله دائماً: محاولات التواصل والتضامن والتشبيك. ذهبت ماهينور إلى طرابلس في ليبيا بعد نجاح ثورتها جزئياً، وقبل تدهور الأوضاع إلى ما آلت إليه الآن، وتواصلت مع العديد من النشطاء الليبيين على الأرض. كما ذهبت إلى قطاع غزة بعد فتح معبر رفح رسمياً مؤقتاً مساندة للفلسطينين. وفي مقطع مُصوّر تقشعر له الأبدان، تهتف مع الجموع التي ملأت عدة حافلات فور تخطّيها الحاجز بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية "هنرددها جيل ورا جيل، بنعاديكي يا إسرائيل". مثل الكثيرين، فلسطين قضية مركزية وفاصلة عند ماهينور، ولذا نشطت أيضاً في حركات مناهِضة للتطبيع الاقتصادي والثقافي، بجانب طبعاً مواقفها السياسية الواضحة.
عملت ماهينور على العديد من القضايا الحقوقية والمدنية. لم تكن من معسكر "مش وقته" و"لا صوت يعلو فوق صوت الثورة". دشنت مع آخرين - إناثاً وذكوراً - حركة نسوية لم يُكتب لها الاستمرار، أطلقوا عليها "نسوية لحد ما تفرج" كاسم مؤقت..
ومع انحسار الموجات الثورية، وبداية اللجوء السياسي إلى مصر وغيرها، ساهمت ماهينور في متابعة أحوال اللاجئين قانونياً وإنسانياً، وشاركت في العديد من الأنشطة مع الأطفال السوريين والفلسطينيين للتخفيف عنهم، ومحاولة توفيق أوضاعهم في مصر.
ماهينور إسكندرانيةُ المولد والنشأة والهوى، وتأثرت مثل العديد من الإسكندريين بسبب محاولات تشويه المدينة من هدم المباني التراثية، والبناء على حرم الشواطئ مما يحجب الرؤية ويقلص الشواطئ العامة. نشطت ماهينور في مبادرات حماية التراث والحفاظ عليه، وشاركت ودعت لوقفات احتجاجية في هذا الصدد، كما شاركت في وداع مبانٍ قبل هدمها، وهو التقليد الحزين الذي سيحافظ عليه سكان المدينة حتى الآن. مع تتابع الأحداث، اضطرت للحضور أكثر في القاهرة، لكنها دائماً ما تعود بعد انتهاء سبب سفرها تلك، وتهرع إلى الإسكندرية حتى صار سؤال "ماهي هنا وإلا هناك - القاهرة وإلا إسكندرية" محل تندر بين الأصدقاء، يعضضه أنها دائماً ما تكون في الطريق بين المدينتين. عرفها عمال السكك الحديد ومحطات سيدي جابر ورمسيس، وخاصة عمال البوفيه وسندوتشات الجبنة التركي والكيك، وعرفها سائقو أتوبيس غرب الدلتا، حتى أنه ذات مرة سألها موظف الحجز "أنت كويسة؟ بقالك يومين مجيتيش".
وبالتوازي مع نشاطها السياسي، أدركت ماهينور اللحظة الفارقة، وحاولت التركيز على التعليم والتطوير الذاتي. ماهينور دائماً معها كتاب، ومؤخراً مع التطور التكنولوجي وبقائها في الشوارع لفترة طويلة، كان هناك دائماً ملفٌ مفتوحٌ تقرؤه من على هاتفها. عطّلت فترات اعتقالها عدة محاولات لاستمرار دراساتها العليا في جامعات في مصر، لكنها لم تيأس وظلت تحاول (حتى الشهر الماضي!) في استكمال أوراقها للقبول في أحد برامج الدبلومات المتخصصة أو الماجستير. وبجانب نشاطها الحركي، تحاول ماهينور دائماً أخذ مسافة من الواقع للاشتباك معه نقدياً، ولا تتوقف عن البحث وعن محاولة صقل نفسها أكاديمياً. ودائماً ما تتشارك ذلك مع مَن هم حولها، وتنشره على حساباتها الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت أشبه بصفحات عامة يتبادل فيها الجميع النقاش والاشتباك والسباب، وحتى بنعتها هي شخصياً باتهامات وألفاظ، لكنها "مش بتشيل حد ولا حاجة" كما تردد دائماً.
عطّلت فترات اعتقالها عدة محاولات لاستمرار دراساتها العليا في جامعات في مصر، لكنها لم تيأس، وظلت تحاول حتى الشهر الماضي في استكمال أوراقها للقبول في أحد برامج الدبلومات المتخصصة أو الماجستير.
فترات الاعتقال لم تزدها إلا قوة وثباتاً (كليشيه سيغضب "ماهي" جداً)، ولم تأخذ من روحها المرحة والخفيفة شيئاً قط. من يشاهدها في مظاهرة أو تتحدث مع ضابط ندّاً لند لن يصدق ذلك، مثلما لن يصدق من يشاهد الفتاة السمراء الخجولة نحيفة الجسد هادئة الملامح بأنها تقود العشرات في هتاف بصوتها. كسرت ماهينور مركزية وحصرية الهتاف الذكوري فقط (نتحدث هنا عن مظاهرات الألفية، وليس مظاهرات 2011 وما بعدها حين هتف الجميع) بسلاسة وهدوء، بدون أن يشعر أحد، وربما بدون حتى أن تقرر هي ذلك، وكأنه شيء عادي أن تنخرط شابة في نشاط سياسي، وشيء عادي أن تخطط وتنظم وتحشد، وشيء عادي أن تقود الهتاف في الشارع أمام جحافل الأمن المركزي، وتصرخ بأعلى صوتها "يسقط يسقط حسني مبارك" في تموز/ يوليو 2010 في كليوباترا على بعد خطوات من منزل الشاب خالد سعيد، ويصرخ وراءها المئات الذين لم تقدر عليهم قوات قسم "سيدي جابر" وكل قوة التأمين يومها. "فتاة مصرية غاضبة جداً" يعلق المذيع عمرو أديب، أحد أبواق النظام دائماً، وأبداً في برنامجه الأشهر "القاهرة اليوم" على صورتها وهي تهتف.
الفتاة الغاضبة تشعُّ مرحاً ومحبة وبهجة حتى في أسوأ أيامها: تضع أغانيها المفضلة كل مساء مع "تصبحوا على خير" على صفحتها على فيسبوك، تلتقط صوراً للجميع وترسلها لهم، أو تضعها في ألبوم مع اسم لطيف: "كتبوا كتابك يا نقاوة عيني - فرح (فلان وفلانة)"، تشاهد أفلاماً ومسلسلات وتحفظ الإفيهات (النكات والجمل العفوية) فيها عن ظهر قلب، تحب التمشية، وتتحدث عن الثورة والأمل وهي تطلب مشويات من مطاعمها المفضلة.
1 - الفكرة نشأت بالأصل في الجامعات الأمريكية إبّان الحرب على العراق، وكشكل من النشاط السياسي غير التقليدي، فيؤلف الطلبة مثلاً "أمماً متحدة" أو "محكمة دولية" الخ، وفي مصر كانت تلك طريقة للاتفاف على الجو المختنق بالملاحقة الأمنية.
2 - حي شعبي /عشوائي في الإسكندرية بني فوق موقع مقبرة رومانية – إغريقية. وقد جرى إخلاؤه من سكانه (حوالي 10 آلاف ) عام 2007 بعد صراعات حادة استمرت لسنوات، بحجة الحاجة لتوسعة الميناء. ونقل الناس إلى "مدينة مبارك" المبنية على تخوم الصحراء وعلى بعد 15 كلم من الإسكندرية، ففقد معظم السكان أعمالهم، وتخلّع النسيج الاجتماعي لهذا المجتمع..