أن يقف شاب في مقتبل العمر ويلقي رسمياً بيان الانجاز الثوري المتحقق، في حضرة العالم كله، وفي حضرة أعدائه ومن حاولوا بكل السبل شطبه وسحق الثورة التي يتكلم باسمها، ليس حدثاً عادياً ابداً.
أن يَحضر في القاعة الفخمة كل الرسميين جلوساً يستمعون بأدب مثل تلميذ شاطر للشاب الهادئ ولكن الصارم، بينما "ناسه" هم أيضاً واقفون في القاعة خلفهم، يصفقون ويهتفون حين يذكر التعهدات الثورية التي قطعتها على نفسها "قوى إعلان الحرية والتغيير"، ليس حدثاً عادياً ابداً.
أن تعلن هذه القوى بمناسبة الاحتفال بالوثيقة الدستورية مبادئها السياسية والاخلاقية الراقية، الانسانوية الشاملة، المنحازة بما لا يقبل اللبس لمفاهيم العدالة الاجتماعية والنزاهة وحق الناس بالمساواة والحرية والكرامة، والمتفارِقة في الصميم مع تكوين وطبيعة النظام البائد ومع سيرة من بقي منه في السلطة ويمتلك العدّة القوية، وأن يقال لهؤلاء وجاهاً: "سنحاسب مرتكبي القمع والفساد. لن ننتقم فنحن لسنا مثلكم، ولكننا سنحاسب، وإنما من يندم ويُكفّر عن ذنوبه فله مكان بيننا".. ليس حدثاً عادياً ابداً.
أن يتمكن هذا التحالف العريض والمتنوع من الحفاظ على وحدته على الرغم من الاختلافات الفكرية والسياسية بين مكوناته، وعلى الرغم من المشاجرات بينها أحياناً، وأن يتمكن من قيادة التفاوض بحكمة (هي مزيج من الليونة والصرامة) ونجاح مع ضباع المجلس العسكري، وكذلك مع المبعوثين الدوليين من كل حدب وصوب، ليس حدثاً عادياً ابداً.
أن يتمكن من اقناع الناس بالحاجة لتسوية وللقبول بها، وهم الذين ثاروا لثمانية أشهر متواصلة وسقط منهم مئات الضحايا بفعل القمع، شهداء وجرحى ومفقودين ومغتصَبين (رجالاً ونساء) ومَن يحملون الى الأبد آثار تعذيبهم، ليس حدثاً عادياً ابداً.
أن تعلن "قوى إعلان الحرية والتغيير" عن امتناعها عن تسمية أعضاء من بين صفوفها للمجلس السيادي، تأكيداً على الزهد في المناصب وعلى رفض الانزلاق الى التنافس عليها، وافساحاً في المجال أمام الشخصيات المدنية التي ترضى عنها وسعياً لأكثر ما يمكن من التمثيل المتعدد، الجهوي والديني والنوعي، ليس حدثاً عادياً ابداً.
أن يكون هناك بين الأعضاء الخمسة المدنيين – ستة مع الشخص التوافقي – امرأتان، ويكون هناك مسيحية قبطية وشاب مناضل من دارفور ومدرِّسة وصحافي وقانوني وبيئي، اي أناس "عاديون" اختيروا لكفاءتهم ولتمثيل المناطق المتنوعة، ليس حدثاً عادياً ابداً... في بلد خيضت فيه مجازر ضد بعض المناطق والمكونات واضطهدت الاقليات، وأنُكر حقها.
سودان الغد: الرسائل - التعهدات الخمسة عشر
22-08-2019
أن يُوجّه الى سكان جنوب السودان الذين انفصلوا - والذين شارك رئيسهم في الاحتفال - كلام من قبيل "نحييكم تحية الشوق والمحبة، وما مسرّتنا إلا بكم فأنتم بعضنا ونحن بعضكم، لا نكتمل إلا بكم ولا يسوئنا إلا ما ساءكم.. سنعمل على أن نعود كما نود.. فراقنا كان قاسٍ ولكن التئام شملنا ممكن فأنتم نصفنا الحلو.." بينما النظام السابق قام بكل ما يمكن لاضطهادهم وللتخلص منهم وساعده في ذلك تآمر الغرب، وما زالت إسرائيل تحفر في الأخاديد، ليس حدثاً عادياً ابداً.
أن تتيح الثورة وقواها مكانة للنساء، صحيح أنها منتزعة أصلاً في الشارع، ولكنها معترف بها وإنْ بما لا يعادل مساهمتها، وأن يُعلَن ذلك كبند رئيسي مع التأكيد على تخصيص 40 في المئة من المجلس التشريعي الانتقالي للنساء (ولكن لماذا يجب دائما أن يكنّ أقل ولو رمزياً.. وهذا سؤال من بين سواه مؤجل للمستقبل!) ليس حدثاً عادياً ابداً... في بلد سُنّت فيه قوانين قمعية مخصصة لهن، علاوة على القمع العام.
أن يُعلن بوعي وتواضع مثيرين للإعجاب، وبتكرار، أنها بداية الطريق لاعادة بناء البلد الجميل والغني وإنما المفقر والمضطهد، وأن الطريق سيكون شاقاً ولكن العهد هو أن يُشق ويكتمِل وإلا فلا قيمة لأي شيء، ليس حدثاً عادياً ابداً.
وحتى تكتمل الصورة، فقد وصل الى الخرطوم يوم الاحتفال بتوقيع الوثيقة الدستورية قطارٌ من "عطبرة" مليئ بالناس، رجالاً ونساء، وتوقف في مسيرته في محطات شتى حيث كانت الاهازيج تنتظره.
عطبرة، وما أدراك ما عطبرة! هي في ولاية نهر النيل، شمالي ولاية الخرطوم بعاصمتها المثلثة، وهي مهد انطلاق هذه الثورة في كانون الاول/ ديسمبر 2018، وهي كانت أرسلت قطاراً يوم اشتد الخناق على المعتصمين في الساحة أمام مقر قيادة الجيش، وهي تقول عن نفسها انها "مدينة الحديد والنار" اذ كانت بها رئاسة هيئة السكة الحديد، وتعتبر من معاقل الحركة العمالية واليسار. وتقول مزهوة : "انا عطبره يا نعم، عاصمة الحديد، إن جاء زرعي عاصفٌ تنمو الأزاهر من جديد، أنظر ترى التاريخ يحضنني كرمز الخلود". ويقول بيان ل"قوى إعلان الحرية والتغيير – ولاية نهر النيل"، أن عطبرة ترسل قطارها الحاشد الثاني هذا "حاملاً رسالة مفادها أننا ندعم ما تمّ الاتفاق عليه، ولكننا سنظل عيناً ساهرة على إنزاله على أرض الواقع لنصل عبره الى تحقيق شعارات ثورتنا وحلم شعبنا بالحرية والسلام والعدالة"... آمين!