من زمان، تم اصدار القرار الاميركي- الاسرائيلي: الثورة رجس من عمل الشيطان، وعلى العرب أن يجتنبوها... ولأن الشعوب كانت مغلولة الايدي، مكتومة الصوت، وقد صودرت الاحزاب والنقابات فيها بالرشوة أو بالقمع او بكليهما، فقد صار الجيش هو من يملك، وحده، مفاتيح التغيير بالانقلاب العسكري الذي يُطلق عليه، في الغالب الاعم، تسمية الثورة.
تخيل أو توهم كل ضابط تزين كتفيه النجوم ويحمل في يده عصا الماريشالية انه قادر على تحقيق المعجزة وإيهام الشعب بأن وصوله إلى سدة الرئاسة، بالعسكر، هو هو "الثورة".
هكذا توالت الانقلابات العسكرية في العديد من الاقطار العربية لتنهي الحياة السياسية في الدول الأكثر تقدماُ، في حين ظلت الرجعية العربية تحكم بالملوك والامراء والنفط والغاز، ويقتصر التغيير فيها على خلع ولي العهد لاستبداله بابن عمه (كما جرى في السعودية حين اجبر محمد بن سلمان ولي العهد آنذاك محمد بن نايف على التنازل، وهو راكع على قدميه.. أو كما جرى، بطريقة أكثر تحضراً بين أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وابنه تميم..).
اليوم يشهد المواطن العربي التآمر على الثورة الشعبية العظيمة في السودان عبر احتضان الضباط الذين نفذوا الانقلاب ضد الدكتاتور حسن البشير الذي حكم بلاد الخير والنيلين لمدة ثلاثين سنة متصلة. ولقد بادرت انظمة النفط والغاز إلى ارسال مليار دولار او أكثر إلى الجنرالات الذي خلعوا البشير، لتحريضهم ضد شعب السودان الطيب والمسالم والذي "يقيم" في الشارع منذ شهور مطالباً بحق ملايينه، نساء ورجالاً وصبايا الورد، في أن يحكم نفسه بنفسه لأنه أكثر ثقافة ووعياً ووطنية من الضباط الطامحين إلى تولي السلطة، بعد تغييبه عنها، بالتواطؤ مع انظمة النفط والغاز والقمع الداخلي بالذهب والنار.
منذ ثمانية أشهر وشعب السودان، رجالاً ونساءً في الشارع.. ولقد حاول بعض قادة الانقلاب الاستقواء بأهل النفط والغاز، فذهب الفيلد مارشال "حميدتي" إلى قمم مكة المكرمة، وجلس إلى جانب الملوك والرؤساء والامراء، بوصفه واحداً منهم... وسمع ما أغراه بالثورة وبشعبه، وفور عودته نفذ الأمر فاذا بالرصاص يدوي في سماء الخرطوم فيسقط القتلى والجرحى... لكن الشعب العنيد لم يهرب ولم يتراجع ولم يتخلَ عن مطالبه البسيطة فحمل شهداءه وجرحاه، دفن من استشهد ونقل الجرحى إلى المستشفيات واستأنف تظاهراته بإصرار وعناد عظيمين مطالباً بان يحكم نفسه بنفسه من دون جنرالات وعسكر يقطعون الطرقات ويداهمون البيوت لاعتقال "المشاغبين" و"اعادة الهدوء"، والتنعم بحكم العسكر، لاسيما بعد "الشرهات" التي تلقاها أو التي حملها حميدتي من بلاد الديمقراطية المثلى في مملكة الوهابيين.
أما في جزائر ثورة المليون شهيد وبلاد النفط والغاز، فقد انتفض الشعب ضد رئيسه المُقعد، والذي يحتاج إلى من يجر كرسيه ويترجم اشاراته بعد عجزه عن النطق، ونزل إلى الشارع الذي طالما شهد تساقط الشهداء أيام محاولة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي البائسة ل "فرنسة" هذا الشعب الأبي.
ولقد اضطر بوتفليقة إلى "التنازل" عن الولاية الخامسة في الرئاسة وسلم الحكم إلى الجيش الذي حكم الجزائر منذ أكثر من ستين سنة بعد خلع الرئيس الوحيد الذي انتخب شرعاً، وديمقراطياً، وبالإجماع، بعد ثورة المليون شهيد يوم العشرين من ايلول 1962: أحمد بن بله
ومنذ خمسة شهور طويلة "يقيم" شعب الجزائر، رجالاً ونساء وورود الشباب، في الشارع، مطالباً بحقه في حياة سياسية طبيعية، يختار فيها ممثليه، ويختار رئيسه، ديمقراطياً، كما في البلاد المتحضرة، وبما يحفظ شرف المليون شهيد.. لكن العسكر يسوف ويرجئ ويؤجل ويساوم الشعب الذي يسكن الشارع، لا سيما أيام الجمعة، مصراً على العودة إلى نتاج الثورة العظيمة، أي الديمقراطية، وأن ينتهي حكم العسكر، ويتم اجراء انتخابات نيابية جديدة، ينبثق عنها رئيس شرعي للجمهورية وحكومة طبيعية. كل ذلك من اجل أن يبقى العسكر، بجنرالاته العجائز في السلطة، ريثما يتدبرون تزوير الانتخابات، "على الطريقة العربية"، بحيث يجيئون برئيس مدني كواجهة لحكمهم العسكري الدائم.. لكن شعب الجزائر صاحب الخبرة الطويلة والقدرة الاسطورية في المقاومة، لن يقبل المساومة وسيفرض حقه في انتخاب ممثليه ورئيس الجمهورية اساساً، مستعيداً وحدته الوطنية (عرباً وبربراً) ودولته التي دفع ثمن استعادة هويتها وقيامها أكثر من مليون شهيد.
والغد سيحمل بشائر انتصار الشعب، برغم الصعوبات والمؤامرة والتدخل الاجنبي.