في المعرض الفوتوغرافي "ترجعوا بالسلامة"، يستحضر الفلسطيني مُحمّد بدارنة تناقضا إنسانيّا جذريا: بين احتمال الموت المتربّص في كلّ لحظة من جهة، وضحكة الحياة التي يجتمع فيها العمّال على كل التفاصيل اليوميّة، من جهة أخرى.
من التناقض بين موتهم وحياتهم تولد الأسئلة. تبدأ الأسئلة في مساحة المشروع المُعلنة: قصص العُمّال الفلسطينيين الذين توفّوا في حوادث العمل، لكنها تبتعد لتطرق جوانب كثيرة. هذا الانتقال، من تفاصيل الحياة البسيطة، إلى طرح الأسئلة الكونيّة، ثم التطرق إلى تحليل واقعنا الاجتماعي، هي وصفةٌ بوسعها أن تعزز مسيرة الفن الفلسطيني. كأنك تدخل إلى شرفةٍ بسيطة، تطل منها على أفقٍ مفتوح من الأسئلة الكونيّة، ثم تنظر إلى الأسفل لتقع في هاوية التعقّد السياسي لهذا البلد. أليست هذه استعارة مُزعجة ومُحرجة في بداية نصٍ يحكي عن عمّال توفّي الكثير منهم جرّاء السقوط عن علو؟
أسئلة عن ارتفاع شاهق
"هل فكّرت يوماً في أن هؤلاء العمّال يعودون إلى الورشة ذاتها يوماً واحداً بعد وفاة زميلهم؟ إلى المكان ذاته؟ الروتين والأدوات والمهام والمزاح ذاته؟ هل فكّرت بالعامل الجديد الذي يأخذ مكان العامل المتوفّى؟".
"هل فكّرت في العائلة اليهوديّة التي تصل بعد شهور لتسكن في المبنى الشاهق الذي توفّي العمّال أثناء تشييده؟ هل تظن أن هذه العائلات الغنيّة، تعرف أو حتى تفكر في الأرواح التي أُزهقت في هذا المكان؟ هل تعتقد أن الملّاك الإسرائيلي في تل أبيب وهرتسيليا سيقبل، لو طلبت العائلة، أن يقام نصب تذكاري لعاملٍ فلسطينيّ توفي وهو يعمل في هذا المبنى أو ذاك الفندق؟".
"ما الذي يدفع الفلسطينيين للعمل في بناء المستوطنات أو جدار الفصل العنصريّ؟ ما الذي يدفعنا للعمل تحت ذل الإسرائيليين ومن أجل إعمار دولتهم؟". هذه الأسئلة بالذات، تثير قصةً مؤلمة من العام 2004، حيث بدأ عمال من فلسطينيي الداخل عملهم في ورشة بناءٍ داخل البرلمان الإسرائيلي. في حينه، رسم رجال الأمن الإسرائيليون إشارة حمراء على خوذات العمّال الفلسطينيين لتمييزهم عن العمّال الأجانب في هذا الموقع الحكومي الحسّاس. جريدة "معاريف" الإسرائيليّة كتبت في حينه: "من أجل أن تكون مراقبة حركته مريحة، ومن أجل تسهيل عمل القناصة على أسطح المبنى". لم يستحضر ذلك في بالهم تلك النجمة الصفراء التي اجبروا على وضعها على ستراتهم... من قبل النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية.
تسجيل غياب
في ذلك اليوم من نيسان/ابريل السنة الجارية، تغيّب أحمد (14 سنة) عن المدرسة. قد تكون المعلمة قرأت اسمه حين سجّلت الحضور والغياب، لكن غياب الطلّاب المتكرر في عدد كبير من المدارس لا يعني الكثير. يتغيّبون لينخرطوا في سوق العمل، ليست حالة أحمد نادرةً ولا استثنائيّة.
كان ذلك آخر يوم تقرأ فيه المعلمة اسم أحمد دراوشة. في طريق العودة من العمل في حيفا، كان أحمد في سيّارة الشغل مع أقربائه العمّال، وقد توقفوا في الزحمة المرورية الاعتياديّة في ساعات "ترويحة العمّال" عند مخرج حيفا الشمالي، حين تسارعت، معطوبة الفرامل، على منحدرات الكرمل، شاحنة بحمولة 70 طنا، وصلت المفرق بسرعةٍ قسوى لتسحق تحتها سبعة عمّال فلسطينيين، من بينهم أحمد الصغير.
الصحافة الإسرائيلية - ونحن خلفها - سارعت تتهم السائق، وهو فلسطينيّ أيضاً. كل أصابع الإتهام مُدّت نحوه وهو يجهش بالبكاء في قاعة المحكمة، لكنّ أحداً لم يسأل عن ظروف عمله: سائقو الشاحنات يعملون حتى 18 ساعة متواصلة دون نومٍ أو راحة، أرباب العمل يرغمونهم على تحميل الأوزان الزائدة، ففي الحالة المذكورة كانت الشاحنة تحمل 10 أطنان إضافيّة، ولا يوفّرون لهم العناية اللازمة بمركباتهم، ناهيك عن الأجور الهزيلة التي يتقاضونها.
الأب والإبن... ومأساة فرح
تقول والدة يحيى خلايلة إنه خلال الشهور الأربعة التي مرّت منذ ولادة إبنته فرح، لم يتمكّن يحيى من أن يقضي مع ابنته سوى أيام قليلة جداً. كان يخرج إلى العمل قبل الفجر، ويعود بعد أن تكون الطفلة قد نامت. يحيى توفّي وهو يعمل في البناء ليؤمن لفرح مستقبلها، حيث سقط عن علوٍ شاهق. يحيى توفّي وهو يؤمن لإبنته مستقبلها، ولكن من يؤمّن يحيى؟ المقاول المسؤول، والذي لم يوفّر وسائل الأمان المطلوبة التي كان يمكن أن تحمي يحيى من الموت، هو والد يحيا! يوفّر المقاولون يومياً مبالغ طائلة في تجاهلهم متطلبات الأمان لعمالهم، يوفّرون المبالغ، ونخسر أرواحاً أغلى من أي مال.
قصةُ تبحث عن عنوان
النكبة عنوانٌ لعمّال فلسطين – عنوان لا يسمعه عمّال البناء صباحاً عبر إذاعة صوت إسرائيل وهم يتكدسون في طريقهم للعمل في المستوطنات. عنوان لا يقرأه شغيلة الضفّة الغربيّة وهم يتسلّقون جدار الفصل العنصري في ساعات الليل ليهربوا للعمل داخل إسرائيل، ولا المتطوعون الأجانب إلى هذه المناطق التعيسة من الجدار ليرسموا شعاراتهم الملوّنة عن السلام. هذا عنوان لا تقرأه نساء القدس على جدران الجامعة العبريّة وهنّ ينظّفن الممرات تحت بورتريه غولدا ميئير وصراخ وتهديدات مقاول العمل (وقد يكون في معظم الأحيان فلسطينياً مثلهم)، وعنوان لا يقرأه الشاب الفلسطيني في يومه المثير الأوّل في شركة البرمجة والتكنولوجيا الإسرائيليّة، كما لا يقرأه جيش من العاطلين عن العمل.
النكبة عنوان لا يقرأه عمّال فلسطين يومياً، لكنه حاضر دائماً، وتستطيع أن تلمسه بالأسئلة البسيطة الأولى التي يُمكن أن توجهها لأي عامل، سيجيبك: "كان عندنا أرض...". رمتنا النكبة بعيداً عن مصدر معيشتنا الطبيعي - الأرض - وحوّلت القرى العربيّة في الجليل والمثلث والنقب إلى مجرّد مساكن يخرج منها العمّال صباحاً إلى المستوطنات الإسرائيليّة التي صارت مدناً كبيرة، ويعودون إليها عند المغيب ليجدوها كما هي - لا تسير إلى أي مكان. هذا طبعا إلى جانب تدمير الاقتصاد المدني الفلسطيني مع تدمير المدينة الفلسطينية عامةً، وولادة القرى الكبيرة التي تُسمى رسمياً "مدناً" بسبب عدد سكانها، لكنها بالحقيقة لا تمت للمدينة بصلة: لا إنتاج ولا استقلالية اقتصاديّة ولا أماكن عمل ولا مناطق صناعيّة، وقطاع خدمات محدود ومرتعش.
يوميّات العامل الفلسطيني والعاملة الفلسطينيّة قصة معاناة وعذاب، لكنها من فرط العادة، أصبحت مجرد تعبٍ يوميّ. يبدأ هذا التعب بالنضال من أجل أن تجد أصلًا مكان عمل في بلد يحتل فيه اليهودي امتيازاً ثابتاً في كل شيء، ثم من أجل أن تحصل على الحد الأدنى من الأجر، ثم أن تعمل دون أن تفقد كرامتك الإنسانيّة، ثم أن تتلقى حقوقك كما ينصّ عليها القانون على الأقل، وأن تجد من يدافع عنك ضد الاستغلال في الوقت الذي تقف فيه نقابة العمّال الإسرائيلية "الهستدروت" موقف العدوّ الأوّل ضد العمّال العرب. هذا، ونحن لم نقترب بعد من الحديث عن حاجة الشعور بالاكتفاء الذاتيّ من منتوجك وعملك، وحاجة الحق الإنساني في أن تربطك عاطفة ما بالمكان الذي يأكل تعبك وأيامك وطاقتك ومواهبك.
لنرجع خطوةً إلى الوراء، قبل هذا كلّه، ونحكي عن حاجة العمّال الأولى - أن يعودوا إلى بيوتهم أحياء...