امرأة + ذكية + مثقفة + شجاعة + مناضلة + عملية!

التجسس المعمم على كل المواطنين هو أحد أدوات اشتغال منظومة الفساد المعقدة والتي لا تقبع في أجهزة الدولة فحسب – وإلا لكان علاج ذلك يسيراً - وإنما هي بنية متكاملة ومتشابكة تخترق المجتمع بأكمله، تربطه بالسلطة بكافة أجهزتها: هي منظومة، ولا يمكن القضاء عليها إلا بتغيير النظام!
2019-06-14

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

إيرما ايرنديرا ساندوفال بالستيروس، وزيرة الخدمة العامة الحالية في المكسيك، عُينت بعد انتخاب الرئيس الجديد، أندرس لوبس أوبرادور، المصنف كيساري في قارة تعيش تراجعاً عاماً لتلك الموجة التي حملت آمالاً عظاماً، وتشهد انتكاساً نحو أشكال من السلطات اليمينية المتوحشة. أغلب التراجع يحصل بفعل تآمر الولايات المتحدة الامريكية واجهزتها طويلة اليد لدى جاراتها، وهو أمرٌ مجسد وملموس، ولكنه أيضاً يحدث في أحيان اخرى بفعل القصور الذاتي لقوى ذلك اليسار، فشلها أو تغلغل القيم المضادة لما تقول وتدعي في نسيجها، وهو حالٌ إجرامي بشكل مضاعف، وليس أقل.

ولكن المكسيك، البلد الذي يقع في الجزء الجنوبي من القارة الامريكية الشمالية، ملتصقاً بالولايات المتحدة، يقدم حالة مثيرة للاهتمام وملهمة، ليس لكونه أتي برئيس يساري بينما هو قوة اقتصادية هامة وبلداً نفطياً كبيراً والمنتج الاول للفضة في العالم، بل لأسباب تتعلق بمساره التاريخي. فهذا بلدٌ تأسس على ثورات متتالية ضد الاحتلال الاسباني أولاً (إعلان الاستقلال في 1813 وتحقيقه فعلياً في 1821) وضد حروب استعمارية شتى.. منها احتلال الولايات المتحدة للبلاد أثناء حربها عليها (1836-1848) والتي هُزمت فيها المكسيك، وضمت واشنطن بناء على هذه الهزيمة (علاوة على تكساس سابقاً التي اندلعت الحرب بسبب ضمها) ما يقارب مليوني كلم مربع تمثّل 40 في المئة من أرض المكسيك حينذاك، وتشمل ما هو اليوم ولايات كاليفورنيا ونيو مكسيكو واريزونا ونيفادا ويوتا والقسم الاكبر من كولورادو!

وعلى الرغم من ذلك بقيت صرخة "فيفا زاباتا" حية (نسبة الى ثورة اميليانو زاباتا في مطلع القرن العشرين)، وصولاً الى حركة الزاباتيين الحالية التي تبني في مقاطعة "شياباس" منذ ربع قرن تجربة في التغيير الإجتماعي والسياسي والاقتصادي تقوم على فكرة الادارة الذاتية.

كما تأسست المكسيك على ثقافتين، واحدة حديثة غربية، وهي متأصلة في البلاد وثرية، وأخرى تتذكر دوماً أن هذه البقعة من العالم هي حضن حضارات الأزتيك والمايا والانكا العريقة التي محقتها بشكل نهائي جحافل الجيوش الاسبانية المحتلة في مطلع القرن السادس عشر. وقد اغتنت اسبانيا من نهب مناجم الفضة المكسيكية كما اغتنت كل اوروبا الغربية آنذاك من هذه الحملات الاستعمارية التي ارتكبت إبادات شبه تامة للسكان الاصليين، ولكنها حققت بفضل نهب ثروات المكسيك (وسواها بعدها) تراكماً أولياً سريعاً للثروة (المنهوبة والمنقولة الى اوروبا) سمح بالانتقال الى عصر الرأسمالية (وهو الامر الذي تتجاهله نظريات "مراحل التطور الطبيعي لأنماط الانتاج" الماركسية الكلاسيكية كما الاعجاب الفيبري - نسبة لماكس فيبر- بالعقلانية والكدّ الغربيّين).

.. ما لا يمنع أن المكسيكيين اليوم هم اكثر من 130 مليوناً وأن البلاد تحتل المرتبة 15 عالمياً كقوة اقتصادية بمقياس الدخل الوطني الخام: 1149 مليار دولار في العام 2017.. يقضم الفساد 10 في المئة منها. وهو ما جاءت الوزيرة لتعالجه. وهي كانت قي شبابها الأول (هي اليوم في 47 من عمرها، أي في شبابها الثاني) زاباتية تعيش في شياباس ثم أصبحت بروفسورة اقتصاد مرموقة، درّست في جامعة هارفارد العريقة ثم في الجامعة المكسيكية حتى أمس، من دون ان تتخلى عن قناعاتها الاولى المنسوجة من تجربتها النضالية ومن تجربة والدها، وهو الآخر مناضل شيوعي نقابي وفلاحي معروف واستاذ جامعي في بلاده تعرض للملاحقة والاعتقال المتكرر.

تعتبر ايرما ان النضال ضد التجسس السلطوي على المجتمع المدني هو أحد شروط نجاح خطتها لمحاربة الفساد المريع المنتشر في بلادها. وهنا تحضر اسرائيل. فالبرنامج الذي استخدم للمساعدة في اصطياد جمال خاشقجي وتصفيته هو نفسه الذي استخدمته قبلاً الحكومة المكسيكية السابقة للتجسس على العديد من المحامين والصحافيين والمناضلين في المكسيك، وذلك بحسب ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز في حزيران /يونيو 2017 التي استندت الى تقرير لـ"مختبرالمواطنية" (Citizen Lab) التابع لجامعة تورنتو الكندية: "بيغاسوس" (PEGASUS)، الذي أسسته مجموعة NSO group technologies المنشأة من ضباط سابقون وحاليون في "وحدة الاستخبارات الالكترو - مغنطيسية" في الجيش الاسرائيلي (UNIT 8200)، والممولة من الحكومة الاسرائيلية بشكل مباشر.

لكننا لن نحاكي هنا قصص ألف ليلة وليلة التي تتوالد الواحدة من الاخرى، وسنعود الى ايرما وافكارها وخططها.

عملت الوزيرة منذ اللحظة الاولى لاستلامها مهامها (في كانون الاول /ديسمبر 2018) على الزام كل موظفي الدولة الفدراليين وكذلك المسئولين السياسيين من وزراء ونواب، بالتصريح عن ممتلكاتهم ومداخيلهم، وحصدت في هذه الموجة الاولى أكثر من 35 مليون دولار.. كغرامات. وهي تتصدى لرؤوس كبيرة في الدولة وفي الاقتصاد، وتعتمد في عملها على جيش من المدنيين، جمعيات وافراد، ممن يقال لهم "مطلقو التنبيهات"، الذين ينبئون عن حالات من الفساد ومن سواه من الممارسات الاجرامية. وهي تقول انه من دونهم فلا يمكنها تنفيذ أي معالجة للوضع. ومن هنا تأتي أهمية حمايتهم بتشريعات اولاً وبمنع التجسس السلطوي عليهم (على هواتفهم ومراسلاتهم) الذي كان شائعاً في بلادها (وفي سواها) والذي يعرضهم للخطر (الشديد، وصولاً للتصفية) ويعطل بكل الاحوال قدرتهم على العمل. تلاحظ الوزيرة ان التجسس المعمم على كل المواطنين هو احد أدوات اشتغال منظومة الفساد المعقدة.

وهي تستند الى أبحاثها الاقتصادية الجامعية لتقول أن خصخصة الدولة هو أساس تعاظم انتشار الفساد المنفلت من كل عقال. وأن الخروج المتزايد لقطاعات كبيرة من المصالح العامة خارج رقابة الدولة والمواطنين قد جعل المكسيك في المرتبة 138 في مؤشر الفساد ل"منظمة الشفافية العالمية" (من اصل 180 بلداً). وهي تعتبر ذلك حصيلة بنيوية للنيوليبرالية ولخصخصة الخدمات العامة عبر تلزيمها الى شركات خاصة، وللشراكات بين القطاعين العام والخاص.

وهذا الموقف يناهض النظريات "الاصلاحية" الشائعة التي تنظر الى الفساد كسلوك إجرامي قابل للتطهير، وتنسبه للدولة سواء بسبب توسع أجهزتها البيروقراطية أو لانحراف موظفيها الكبار اصحاب الايدي التي يمكنها أن تطال المصالح وتعمل على الانتفاع انطلاقاً من نفوذها (ما يبرر عادة الدعوات لتقليص علاقة الدولة بالخدمات العامة)، فيما ترى هي أن المحرك الفعلي للصراع ضد الفساد يكمن في سيرورة الدمقرطة حيث هناك محاسبة واضحة ورقابة. وهي ترى ان الفساد يلجأ، حين يحتاج ذلك، الى تغذية أشكال مختلفة من العنف، سواء من قبل عصابات إجرامية بغاية الابتزاز أو التخويف للتأثير في مجريات أحداث بعينها (كالانتخابات)، أو عبر تنظيم التصارع على المكاسب أياً كانت الحجب التمويهية لهذه الصراعات (مذهبي، عرقي ، جهوي..). ولذا فلا يقبع الفساد في أجهزة الدولة فحسب – وإلا لكان علاج ذلك يسيراً - بل هو بنية متكاملة ومتشابكة تخترق المجتمع بأكمله، وتربطه بالسلطة بكافة أجهزتها. هي منظومة، ولا يمكن القضاء عليها إلا بتغيير النظام!

مقالات من العالم

جوليان أسانج حرّ

2024-06-27

فعل أسانج المحظور الأكبر في هذا العالم. كشف اللثام عن أكبر أكاذيب العالم وأكثر أساليب الدول وحشية، وفضح تلك البرودة الفظيعة التي يتمتع بها الجميع خلف الكواليس، وتلك السهولة الرهيبة...

عودة إلى فانون: عن فلسطين وسيكولوجيا الاضطهاد والتحرّر

لا يمكننا التكلم عن فانون دون التطرق لتحليله للعنف وسايكولوجيا الاضطهاد، خصوصاً خلال الحقبة الحالية التي يطبعها الدمار والموت. ماذا كان فانون ليقول عن الإبادة الاستعمارية و"سيل القتل" اللذين يحدثان...

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...