"لقد سقط وانتصرنا"! تلك هي صرخة المعتصمين أمام مُجمّع وزارة الدفاع في قلب الخرطوم فجر اليوم السادس للاعتصام.. بعد 4 أشهر من التظاهرات التي عمت البلاد وتميزت بسلميتها ورقيّها على الرغم من القتلى والجرحى الذين سقطوا برصاص قنص من ميليشيات مرتبطة بالبشير ومن ملثمين مرتزقة ومن بعض وحدات الأمن، بينما حمت قطعات من الجيش التظاهرات والاعتصامات، ما خفف من الخسائر وأحبط في الاسابيع الماضية جنوح السلطة الى القمع واستسهال حمامات الدم.
وسيكون من البائخ أن نلخص هذه الثورة بما تحاول السلطة الحاكمة القيام به اليوم من استبدال للبشير بالفريق عوض بن عوف، وهو وزير الدفاع، ونائب الرئيس، وكان قائداً للمخابرات العسكرية ووجهت له خلال الحرب في دارفور تهمة ارتكاب جرائم حرب.. بل أن هذا الاختزال غير لائق سياسياً. ولو حدث، فهو يعكس مقدار الاحباط المستبْطَن في نفوسنا جراء الهزائم والخيبات المختلفة، أكثر مما هو تعبير عن العقلانية والحكمة!
البيان رقم 1 الذي أعلن فيه الفريق بن عوف عزل البشير والتحفظ عليه وحل مؤسسة الرئاسة والحكومة والبرلمان، واستلام لجنة عسكرية انتقالية برئاسته السلطة لعامين، واعلان حالة الطوارئ لثلاثة اشهر، ومنع التجوال ليلاً لشهر.. ليس حتى انقلاباً، بل هو مجدداً وبكثير من الفجاجة المباشرة محاولة للتخلص من الرأس المهترئ للحفاظ على النظام.. سيناريو صار مكروراً في المنطقة، ولكنه كان دائماً يحاط ببعض التزويق، إلا هنا!
طوال الأشهر الاربعة الماضية، برهن السودانيون والسودانيات – و70 في المئة من كتلة المتظاهرين كن من النساء – أنهم غير يائسون على الرغم من التاريخ الحديث لبلادهم المليء بالفظائع، من الانقلابات والاعدامات، الى الحروب الاهلية، الى تنظيم متكرر لاستباحة الناس وتجويعهم وقتلهم.. والسبب في احتفاظهم بجزوة الأمل هو أن تاريخهم مليء كذلك بلحظات منيرة، من استيعاب الإنقلابات والحكومات الغاشمة بتحركات جماهيرية عارمة فرضت تغييراً في السلطة مرتين، في 1965 بانتخابات عامة، ثم في 6 نيسان/ ابريل 1985 بمساعدة الجيش، الذي سلّم السلطة للمدنيين خلال فترة انتقالية وجيزة..
وها هم الآن، يكررون موقفاً ناصعاً بمواجهة هذا المنعطف الخطير الذي هندسته عقلية كبار الجنرالات بمساعدة تبدو واضحة من سلطات بلدان "صديقة"، كمصر والسعودية والامارت، (وقبلهم الولايات المتحدة الامريكية التي تروّج للفريق بن عوف منذ أشهر)، أرعبها ما كان يجري، وعملت على استيعابه بنصائح من قبيل هذا البيان رقم 1. أطلقوا صرخة "تسقط تاني" بوجه بن عوف، معلنين أن الحيلة لا تنطلي عليهم. فهم من أسقط البشير، وهذا انجاز مؤكد، تحاول السلطة القائمة تصفيته والالتفاف عليه بتلك المسرحية، مصحوبة بقمع دموي خلال اليوم الأول للاعلان العسكري، بما يوحي بالتهديد بتوسل العنف الشديد في مقبل الايام، بقصد الاخافة و"استعادة زمام الأمور".
لكن هذا التدبير يمكن أن يدفع الموقف الى ساحة حسابات أخرى. فالسودانيون شعب متنوع الاعراق والديانات والانتماءات الجهوية، ومتمرس في السياسة بحيث يصعب أن يُضبط بالتخويف فحسب، أو حتى بحمام دم قظيع قد يستحث عنفاً مقابلاً. وهو شعب يعرف قدرات بلاده الاقتصادية الهائلة.. والمنهوبة، مما جعله عرضة للجوع والعوز.
هل السودان بلد فقير حقاً؟
04-01-2019
وقد رد "تجمع المهنيين" الذي يقود التحركات الحالية أو يؤطرها على الاقل، برفض الاجراء/ المسخرة وبالدعوة للاستمرار في الاعتصامات. والتجمع هو سلطة نقابية متفرعة الأغصان حلت محل النقابات وبدلاً منها، وهي التي كانت في غاية القوة والتنظيم الى ان فتكت بها خطط القمع والمنع والاستيعاب..
كما يبدو أن هناك انشقاقات في الجيش نفسه قد تجعل التمايز بين كبار الجنرالات من جهة، والرتب الادنى والجنود من جهة ثانية، باباً لاحباط هذا الاجراء. قد يؤدي تصرف بن عوف الى الدفع باتجاه العنف الدموي والفوضى.. ولكن الممكن أيضاً أن يتخلق فصل ثانٍ يلي الإجراء الأحمق، ويستند الى عراقة العمل السياسي - المدني والنقابي - في هذا البلد الطيب.