في 20 حزيران/ يونيو، أوقف خفر السواحل القطري 82 صياداً بحرينيّاً كانوا يصطادون الأسماك في المياه الإقليمية القطرية. وبعد التحقيق معهم تم إخلاء سبيل الصيادين ومصادرة قواربهم الواحد والعشرين. لم تكن هذه هي المرة الاولى التي تحتجز فيه السلطات القطرية بحارة بحرينيين تجاوزوا الحدود المرسومة للوصول إلى مصائد الأسماك الغنية التي تقع ضمن المياه القطرية. ولحسن الحظ لم يتعرض أيٌ من الصيادين للأذى مثلما حصل قبل سنتيْن ونصف حين أطلق خفر السواحل القطري النار لتوقيف الصيادين، ما أدى إلى وفاة أحدهم. وكاد ذلك الحادث أن يتسبب في عرقلة انعقاد قمة دول مجلس التعاون الخليجي في كانون أول/ديسمبر2010، لولا وساطة قام بها الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز. لم يكن ما حصل لصيادي السمك البحرينيين في المياه الإقليمية القطرية مفاجئاً أو عَرَضيا أو فريداً. فهو حادث يتكرر بين البلدين مثلما هو يتكرر في المياه الإقليمية لجميع البلدان المطلة على الخليج. وهو حادث يكشف في كل مرة عن هشاشة مؤسسات مجلس التعاون الخليجي.
التركة البريطانية
حين انسحب البريطانيون من المنطقة في العام 1971، تركوا وراءهم شبكة معقدة من الخلافات حول الحدود البرية والبحرية التي رسموها في بداية القرن التاسع عشر. ورغم مرور أكثر من أربعة عقود على الانسحاب البريطاني، ما زالت الخلافات الحدودية تشكل مصدر خطر على جميع الدول المتشاطئة في الخليج العربي، وعاملاً من عوامل عدم استقرار المنطقة. فعلاوة على الخلاف القطري البحريني، هناك الحدود القلقة بين السعودية من جهة وكل من الكويت وقطر والإمارات وعُمان من جهة ثانية، وبين دولة الإمارات وعُمان، (ناهيك عن نزاعات أخرى مزمنة بين الكويت والعراق، وبين الإمارات وإيران).
جاء اعتقال الصيادين البحرينيين في المياه الإقليمية القطرية غداة الاحتفال بمرور اثنتي عشرة سنة على إصدار محكمة العدل الدولية في لاهاي قرارها في 16 آذار/ مارس2001 حول الخلاف الحدودي بين قطر والبحرين. نقل ذلك القرار الملزم السيادة على جزر حوار إلى البحرين وأعطى قطر السيادة على مناطق أخرى متنازع عليها. وهو أنهى واحدة من أطول القضايا التي نظرت فيها محكمة لاهاي، كما أنهى نزاعاً مستمراً منذ أواخر القرن التاسع عشر بين العائلتيْن الحاكمتين، آل ثاني وآل خليفة. رحب البلَدان بذلك القرار وأعلنا عن عطلة رسمية للاحتفال به. وسارعا بعد العطلة للإعلان عن استئناف أعمال اللجنة العليا المشتركة التي تشكلت برئاسة ولييْ العهد في قطر والبحرين لتنفيذ مشروعات استثمارية وتنموية في المناطق الحدودية، بما فيها مشروع بناء جسر يربط بين البلدين. في تلك الأجواء المتفائلة، لم يكن مستغرباً انتظار أن يكون قرارالمحكمة الدولية بداية لحركة تسويات تاريخية تعالج آثار الموروث الاستعماري البريطاني الذيرسم منذ 1820 حدود المشيخات التي قامت عليها الأنظمة الحاكمة في الخليج العربي.
إضاعة الفرصة التاريخية
لتسوية النزاعات الحدودية
أضاعت دول مجلس التعاون الفرصة التي وفرها قرار محكمة العدل الدولية لتسوية نزاعاتها الحدودية مباشرة أو عن طريق تحويل ما لا يمكنها تسويته إلى محكمة لاهاي. يمكن تفسير امتناع العوائل الحاكمة في الخليج عن تسوية خلافاتها بأساليب عقلانية بالإشارة الى ازدواجية المرجعية التي يقوم عليه حكم العوائل الحاكمة في الخليج. فمن جهة هي دول حديثة تحتل مكانها في منظومة المجتمع الدولي وفي إطار تقسيم العمل في النظام الرأسمالي العالمي، وهي من الجهة الأخرى أنظمة حكم قبلية تسْتنِد شرعيتها الى استخدامها الخطاب الديني، وتحشيد الولاء القبلي، علاوة على احتكارها توزيع ريع النفط. صحيح أن أغلب المناطق المتنازع عليها هي مناطق غنية بالنفط أوالغاز، ما يجعل من الصعب على أي نظام سياسي مهما كان عقلانيا أن يتخلى عنها. إلا إن هذه الصعوبة تزداد وضوحاً في منطقة تفاخر العوائل الحاكمة فيها بتراثٍ يعتبر الغنيمة حقاً، ويعتبر وضع اليد وسيلة للتملك. وبسبب هذه الازدواجية، لم تذهب بعيداً التسوية القانونية التي أصدرتها محكمة العدل الدولية. فرغم قبول العائلتيْن الحاكمتيْن في البحرين وقطر بقرارها واحتفائهما الرسمي به، لم تتوقف المشاحنات بينهما حول المناطق البحرية الغنية بمخزون النفط والغاز وبمصائد الأسماك. وكما كان متوقعاً، بقي مشروع بناء الجسر بين قطر والبحرين حبيس الأدراج.
عجز مجلس التعاون الخليجي
لم يقم مجلس التعاون الخليجي طيلة أكثر من ثلاثة عقود مرّت، منذ تأسيسه في 1981، بمحاولة جدية لتسوية الخلافات الحدودية بين أعضائه. بل فشل المجلس أيضاً في التوصل إلى اتفاقيات تحد من الآثار السلبية لتلك الخلافات على الحياة اليومية لسكان المنطقة. وتتفاقم تلك الآثار السلبية بسبب احتكار السلطة السياسية في أيدي العوائل الحاكمة، وبسبب سوء الإدارة والفساد والقرارات السياسية المرتجلة والقصيرة الأمد. ففي ما يتعلق بالبيئة البحرية مثلاً، يمكن الإشارة إلى عمليات الردم البحري والدفان في سواحل بلدان الخليج لبناء الجزرالصناعية وإقامة مشاريع إسكان فخمة عليها لمصلحة شركات يسيطر على ملكيتها كبار أفراد العوائل الحاكمة. فعلاوة على الأضرار الدائمة التي لحقت بالبيئة البحرية، وخاصة حقول الشِعب المرجانية والمناطق الغنية بالثروة السمكية، فإن تلك المشاريع فرضت مصاعب إضافية على الصيادين الذين صاروا يُضطرون إلى تجاوز الحدود البحرية بحثاً عن أرزاقهم.
برغم الإعلانات التي تكررها البيانات الختامية لثلاثة وثلاثين اجتماع قمة خليجية عن تصميم زعماء المنطقة على العمل من أجل «تعزيز روح المواطنة الخليجية لدى مواطني دول مجلس التعاون في مختلف المجالات»، بقيت العلاقات بين سكان المنطقة أسيرة للعلاقات بين العوائل الحاكمة وتقلبات مزاج أمرائها. يرتبط عجز مجلس التعاون الخليجي عن التحول إلى منظمة إقليمية، على شكل يزيد أو ينقص عن الاتحاد الأوروبي، بعدة أسباب أبرزها خوف كل عائلة حاكمة من خسارة جزء من سيادتها على أراضيها ومياهها وما تحويانه من ثروات. ولهذا لم تتمكن دول مجلس التعاون من تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية منذ توقيعها في 2001. ومعلومٌ ان تلك الاتفاقية دعت إلى إنشاء سوق خليجية مشتركة تضمن حرية التنقل والعمل لمواطني دول المنطقة والمقيمين، بما يؤدي إلى اندماجها التدريجي. وعلى الضد من ذلك، فإن ما يمكن ملاحظته هو تزايد الإجراءات المرتجلة التي تتخذها كل دولة على حدة. وهو ما يحدث حين تعلن القوات البحرية أو خفر السواحل في إحدى دول المجلس فرض مناطق عسكرية أو محميات أمنية بالقرب من مصائد الأسماك أو في الطريق إليها. أو حين تقرر السلطات المعنية في هذه الدولة أو تلك توسيع نطاق الحظر المفروض لعدة كيلومترات حول المنصات البحرية لاستخراج الغاز والنفط، أو حول جزر خاصة يملكها شيخ أو أمير.
وهكذا، فما زالت نخب سياسية وفعاليات اقتصادية، بمن فيهم ممثلو الغرف التجارية الخليجية، يناشدون حكام بلدانهم عشية كل قمة خليجية بتفعيل اتفاقية العام 2001، بما «يتيح لمواطني دول المجلس حرية التنقل والإقامة ومزاولة كل الأنشطة التجارية والاقتصادية والمهنية دون تمييز أو استثناء». وهي مناشدة لن يمانع في ترديدها كل بحار أو صياد سمك يضطره البحث عن لقمة العيش إلى «انتهاك» الحدود البحرية لهذه الدولة الخليجية أو تلك.