ممر التعليم في العراق يتوسط حقلاً من الألغام. الولادة العسيرة كانت في ظل الاحتلال الإنكليزي عام 1921. وقتها أثار حفيظة الإقطاعيين نجاح الانجليز في إرساء اللبنة الأولى للتعليم العام، فسعوا إلى اقصاء أبناء الفلاحين عنه. واستصدروا لهذه الغاية فتاوى دينية تحرِّم التعليم في مدارس الدولة وتقصره على "الكتاتيب" التي تكتفي بتحفيظ القرآن. بعد ثورة تموز 1958، صدرت قوانين الإصلاح الزراعي. لكنها لم تُعد الفلاحين إلى أراضيهم، فهؤلاء كانوا قد هجروها حين تدخل الانكليز تدخلا قسريا عنيفا في تعديل البنية الاجتماعية، فمنحوا الارض الزراعية، المشاع القبَلي في الأصل، الى شيوخ العشائر، منصِّبين إياهم إقطاعيين بغرض استمالتهم. وهم بذا استولدوا "طبقة" جديدة، وشوهوا العلاقات السائدة والراسخة منذ زمن طويل، وأثاروا انتفاضات فلاحية متكررة، وتسببوا بنزوح الفلاحين باتجاه العاصمة.
استوطن النازحون على أسوار بغداد، في "صرايف" (أي أكواخ) "خلف السدة"، يعملون في المهن البسيطة. وشكّل منهم النظام الجمهوري الجديد، الذي ولد عام 1958 على يد انقلاب عسكري قام به الزعيم عبد الكريم قاسم طوقاً حول العاصمة. وهكذا ولدت مدنٌ كبيرة كمدينة "الثورة" التي ورثت "خلف السدة" تلك. وبعد ذلك، وتحديداً عام 1962، نشأت أحياء "الشعلة" و"الشعب"، عندما أمر قاسم ببناء دور سكنية للنازحين من المحافظات. وقد بلغ عدد سكان تلك الاحياء الجديدة ثلث سكان بغداد آنذاك. وتُبيّن نتائج التعداد السكاني للعام 1965 ارتفاع عدد سكان المدن وانخفاضا واضحا في عدد سكان الألوية الجنوبية، وقد قدرت مديرية النفوس العامة في بغداد عدد النازحين إلى بغداد بين عامي 1957ـ1965 بثلاثمئة وثلاثين ألف نسمة تقريباً، من أصل 7 ملايين عراقي حسب إحصاء 1957.
وهكذا ولد جيش من البطالة المقنعة التي عششت في الوظائف العسكرية والخدمية. ولم يطل جلوس أبناء هذا الجيش على مقاعد الدراسة، بسبب الفاقة الناتجة من تورّم عدد أعضاء الأسرة الواحدة، الذي يفوق الثمانية أفراد كمعدّل وسطي وفقاً لإحصاء عام 1977 السكاني، فأخذ الآباء يستعجلون عمل الأبناء طلباً للرزق.
بداية ثالثة للتعليم في العراق جاءت عام 1970. بداية مؤدلجة، تهدف إلى نشر أفكار حزب البعث الحاكم على نطاق جماهيري. صدر آنذاك قانون التعليم الإلزامي للمرحلة الابتدائية، ورافقه إصدار قانون محو أمية الكبار. وخلال عقد من الزمن، بحسب تقرير لليونيسكو، بلغت معدلات الالتحاق الإجمالية بالمدارس الابتدائية 100%، وانخفضت نسبة الأمية بين الكبار إلى 10% بعد أن كانت قد وصلت حتى مطلع عام 1970 إلى أكثر من 41%، ووصل التسرب من المدارس الى أدنى مستوياته، وبلغ حجم الإنفاق الحكومي في مجال التعليم 6% من الناتج الوطني، أي أن متوسط الإنفاق على التعليم للطالب الواحد بلغ 620 دولاراً. وحينذاك ارتفع مستوى تعليم الفرد العراقي وأسهم ذلك إلى حدّ كبير في بناء طبقة وسطى أخذت على عاتقها استثمار الوفرة المالية المتحقّقة من قرار تأميم النفط في بناء صناعات أولية وصناعات تحويلية، وكان من الممكن أن تؤسَّس قاعدة صناعية مهمة في المنطقة لولا نشوب حرب الثماني العجاف، الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988).
التهمت الحرب العراقية - الإيرانية الموارد المالية والبشرية على حدّ سواء. وخلال سنواتها الأربع الأولى، قضت على معظم الإنجازات التعليمية في العراق وأصابت ميزانية التعليم بعجزٍ استمر يتعاظم مع مرور الوقت، فانخفض حجم الإنفاق على الطالب من 620 دولارا إلى 47 دولارا بحسب ميزانية العراق لسنوات 1985 -2003. خلّفت الحرب جوّاً من اليأس والإحباط في صفوف الناس، وبدأت معها حكاية الدائرة المفرغة في التعليم، وهي كانت على مستويين: الأوّل، إغلاق الكليات والمعاهد التي تخرِّج الكادر التعليمي أمام غير المنتمين لحزب البعث الحاكم، من أجل ضمان تعبئة الطلبة بأفكار الحزب والتبشير بـ"عدالة" موقف العراق من الحرب، الأمر الذي أنتج جيلاً من المدرسين المنشغلين بهذه المهمة على حساب مهمة التعليم الأساسية. والثاني هو ربط عجلة المجتمع، بجميع مفاصلها، ومن ضمنها المؤسسات التعليمية، بالمؤسسة العسكرية. فبدأت الحوادث الحربية تُدرَج ضمن المناهج الدراسية، لكي تكون "شاهداً على الزمن"، وليربّي نظام البعث الأجيال على الأحقاد على إيران. هكذا بالنسبة لحادثة مدرسة "بلاط الشهداء" الابتدائية في حي الدورة من بغداد، التي قصفها الجيش الإيراني في 13 تشرين الاول/اكتوبر 1987، وكانت شرارة انطلاق "حرب المدن" بين البلدين.
من هنا بدأ الانهيار الحقيقي للنظام التعليمي في العراق، ليصل إلى القعر في تسعينيات القرن الماضي، مع حرب الخليج الثانية والحصار الاقتصادي الذي فرضته قرارات مجلس الأمن، والذي دام لأكثر من 13 عاماً، ناخراً تماماً جسد المجتمع العراقي بعدما أنهكته الحروب.
وبعد إسقاط نظام صدام حسين وغزو العراق في نيسان عام 2003، تمكّن الاحتلال الأميركي من هدم ما تبقّى من أسس الدولة العراقية، على وعد إعادة بنائها وفقاً لمعايير "الدولة الديموقراطية الحديثة". إلا أن الاحتلال، ومن بعده الحكومات العراقية المتعاقبة، لم يشرعوا في بناء "الدولة"، بل اكتفوا برسم ملامح سلطات هجينة اعتمدت مبدأ المحاصصة الإثنية والطائفية. وهذا النظام ـ الذي أسموه "ديموقراطية المكونات" ـ حرم العراق من الاستفادة الحقيقية من طاقات أبنائه، ولا سيما في مجال التعليم الخاضع هو الآخر للمحاصصة. كما أن الهجرة من البلد بسبب الاقتتال الطائفي واتّساع حجم الفاقة الاقتصادية، إضافة إلى الفساد المالي والاداري، أجهزت جميعها على ما تبقى من المؤسسات التعليمية.
تقدر نسبة الأميين في العراق بحوالي 6 ملايين من أصل واحد وثلاثين مليون نسمة (حسب التقديرات التي تجري وفق متواليات حسابية، فآخر إحصاء رسمي للسكان أجري في 1997، ولكنه لم يشمل إقليم كردستان. وكان يفترض أن يتم إحصاء وطني شامل في 2010 ولكنه تأجل بسبب ممانعة حكومة ذلك الاقليم). مثل هذه الرقم يدق ناقوس الخطر كأمر مر لا حل له في عراق اليوم وفق ما هو مهندس عليه. فبحسب لجنة التربية في البرلمان، يحتاج العراق لستة آلاف مدرسة. لكن اللجنة في الوقت نفسه تقول إن العراق يحتاج لعشرين سنة لبناء هذا العدد من المدارس وفق الموازنة الحالية (نحو 100 مليار دولار)، والتي خفضت فيها حصّة وزارتي التربية والتعليم، فبلغت نحو 13.44% منها، ما يعني أن العجز سيظل قائماً وفقاً للنمو السنوي البالغ 3% حسب وزارة التخطيط العراقية. إن الجهود الساعية إلى التقليل من حجم الأميّة تبدو كمن يطرق أبواباً هجرتها الحكومة العراقية، خاصة بعد أن رفعت ميزانية وزارات الدفاع والداخلية إلى 20.01%.
يتجاوز عدد التلامذة في أنحاء العراق الثمانية ملايين تلميذ. وعلى الرغم من أن وزارة التربية أعلنت أنها شرعت ببناء 5000 مدرسة في العام 2011، إلا أن ملفات الفساد التي تتعلق ببناء المدارس والمستلزمات المدرسية أكثر من أن تحصى. وعلاوة على ذلك، تنتشر في العراق المدارس المبنية بالطين، والتي تكلّف وزارة التربية سكّان المناطق ببنائها بعد توفير أرض مساحتها دونمان ومسقفات مقابل أن تقوم الوزارة برفد الملاكات التدريسية. ووفق آخر إحصائية لوزارة التربية، فإن عدد المدارس المشيّدة بمادة الطين في عموم العراق بلغ 1012 مدرسة، وتضم هذه المدارس 113.594 طالباً وطالبة وفيها 7.079 من الملاكات التعليمية.
أما الوجه الآخر للكارثة التعليمية في العراق فيتجسد في تغيير المناهج الدراسية وفقاً لقياسات دينية وطائفية، حيث أثار تغيير المناهج حفيظة ديوان الوقف السني الذي يرى بأنه منهاج طائفي يعتمد على رؤية شيعية للإسلام! وقد جرى اعتماد مادة "الإسلامية"، كما أسميت، من الصف الأوّل الابتدائي وحتى السادس إعدادي كمادةٍ رئيسة. وهذا التدبير غير مسبوق.