الهجــوم علـى شــارع الكـتــب فـي بـغــداد

أكثر من أربعين عنصر أمن وموظفا مدنيا في أمانة بغداد (المحافظة أو الولاية)، حاصروا شارع المتنبي في صولة فرسان للقضاء على «كواتم» الكتَّاب وتفكيك «مفخخات» الثقافة. أربعون شخصاً مدجَّجون بإرث المغول وجرافات الحكومة، لإزاحة أكداس الكتب عن أرصفة شارع المتنبي التي قبض عليها متلبسة برفض الطائفية والمحاصصة، والاحتفاء بالوطن الواحد في وضح الثقافة.جرفوا ديوان الشعر
2012-10-03

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك

أكثر من أربعين عنصر أمن وموظفا مدنيا في أمانة بغداد (المحافظة أو الولاية)، حاصروا شارع المتنبي في صولة فرسان للقضاء على «كواتم» الكتَّاب وتفكيك «مفخخات» الثقافة. أربعون شخصاً مدجَّجون بإرث المغول وجرافات الحكومة، لإزاحة أكداس الكتب عن أرصفة شارع المتنبي التي قبض عليها متلبسة برفض الطائفية والمحاصصة، والاحتفاء بالوطن الواحد في وضح الثقافة.
جرفوا ديوان الشعر والرواية وكتب الفكر والنقد، كما تُجرف أنقاض معركة طاحنة. هكذا يصف أحد باعة الكتب مشاهد الغزوة التي قامت بها أمانة بغداد في 21 أيلول/سبتمبر على شارع المتنبي، الشارع الوحيد الذي حافظ على اهتمامه بالكتاب في بلد كان شعبه يعد الأكثر قراءة بين شعوب المنطقة.

تدمير الكتب بمواجهة "أنا عراقي، أنا أقرأ"

الأزمة الحقيقية أن تدمير بسطات شارع المتنبي من قبل أمانة بغداد، تزامن مع قرب موعد أكبر تظاهرة للقراءة في بغداد قام بالدعوة اليها وتنظيمها مجموعة من الشباب، بتمويل خاص وتبرعات من المثقفين: حملة «أنا عراقي.. أنا اقرأ». الشباب رأوا أن كلَّ شيء في بلادهم يلبس السواد ويمضي نحو الفاجعة والتخلَّف. وشتّان هنا بين هؤلاء الشباب الذين يحملون روحاً مدنيَّة للنهوض، وبين حكومة تود أن تقود الشباب نحو التخندق في انقسامات طاردة للثقافة.
قصَّةُ أمانة بغداد بدأت في الساعة الخامسة عصراً تماماً من ذلك اليوم المشؤوم، كما يروي أحد شهود العيان. إذ حطّت في شارع المتنبي، الذي يتفرَّع من شارع الرشيد، الاشهر وسط بغداد، تلك العناصر من قيادة عمليات بغداد وأمانة بغداد، وانقضوا على كل بسطات الكتب يحطمونها. لم تبلِّغ الأمانة أصحاب البسطات بتجاوزهم على الشارع، كما هي العادة في مثل هذه الأحوال، ولم تتوانَ العناصر عن ضرب واحتجاز شاب لساعات عدّة، حاول أن يمنع العناصر من تحطيم البسطات وإتلاف الكتب، ولم يتوانَ منتسبو أمانة بغداد عن استخدام الجرافات لإنجاز «المهمة» بسرعة.

مفاهيم "الهيبة" و"الجمال"

مدير المكتب الإعلامي لأمانة بغداد شبه شارع المتنبي، المختص ببيع الكتب واللوحات والصور الفوتوغرافية والقرطاسية، بشارع الغَزْل، وهو السوق الذي تباع فيه الحيوانات الأليفة والبرية، بقوله «قمنا برفع المتجاوزين كافة في شارع المتنبي من أجل إعادة الهيبة له، مع تخصيص يوم واحد لأصحاب البسطات، وهو يوم الجمعة، ليمارسوا عملهم ببيع الكتب، وسيكون الوضع مثل «سوق الغزل»، بتوفير الوضع اللازم وتأمين المنطقة في كل نهاية أسبوع».
إلا أن حجج الأمانة في إزالة البسطات من شارع المتنبي واهية، لا سيما وأن بيانها يقول «الحملة شملت رفع الاكشاك ومواقع بيع المأكولات ومعروضات الكتب والمطبوعات على الارصفة». باعة الكتب في شارع المتنبي لا يبنون أكشاكاً، بل يرفعون الكتب عن الأرض بضعة سنتمترات، بواسطة ألواح خشبية، كي لا تتعرَّض إلى التلف والرطوبة والغبار. وربما كان رواد شارع المتنبي أكثر الناس معاناة من عدم وجود أكشاك الطعام فيه، إذ لا يتوفَّر فيه إلا مقهى «الشابندر» (الشهير) الذي يقع في آخر شارع المتنبي، مقابل سوق السراي، والذي لا يتوفَّر فيه إلا الشاي والماء المعلَّب. وما على المتواجد في شارع المتنبي، إذا ما حلَّ عليه الجوع ضيفاً ثقيلاً، إلا الذهاب إلى شارع الرشيد ليجد مطعماً صغيراً.
وصف أحد الكتّاب أمانة بغداد بـ«هولاكو» العراق الجديد الطارد للثقافة، والذي يعبر نهر دجلة على أشلاء الكتب، خاصّة وأن على ضفة كرخ نهر دجلة المقابلة لضفة الرصافة، حيث يتمدد شارع المتنبي، قصور حكم العباسيين في ما مضى، والقصور الرئاسية لصدام حسين، وهي الآن قصور حكَّام العراق الجدد حيث أُقيمت «المنطقة الخضراء».
سارع أمين بغداد، بعد الحادثة بيوم واحد، وبعد أن اشتدَّ الهجوم على «أمانته» من قبل الصحافة والأدباء، لتبرئة نفسه بالإيعاز «بتشكيل لجنة تحقيقية في ملابسات رفع التجاوزات في شارع المتنبي». لكن باطن الإيعاز ليس كظاهره، حيث يضيف بيانه أن «امانة بغداد (..) تحرص على ازالة جميع التجاوزات الصارخة التي تؤدي إلى الإضرار بالممتلكات وتعيق حركة المركبات والسابلة وتشوه منظر وجمالية هذه الأماكن».
وهنا، لا بدَّ من تفنيد أمر آخر: بعد أن تعرَّض شارع المتنبي عام 2007 إلى عمل إرهابي أدى إلى تدمير الشارع وحصد أرواح 30 شخصاً وإيقاع 65 جريحاً، قامت حينها أمانة بغداد، بمساعدة منظَّمات أهليَّة، بترميمه، فمنعت مذاك دخول المركبات إليه، فهو شارع مشاة فحسب، وهذا ما يبطل حجَّة أمانة بغداد وأمينها، حول سبب القيام بالحملة.

*************

العراقيون يقرأون

بجهود فرديَّة، أسس شباب عراقيون حملة "أنا عراقي.. أنا اقرأ"، بعدما تمكن الفقر والقتل من الاطاحة بمستوى القراءة في العراق، وهي كانت الرياضة الوطنية الاولى. فتح هؤلاء الشباب الصناديق أمام الناس للتبرّع بالكتب في شارع المتنبي، وفي مناطق متفرَّقة من بغداد.
مبادرة الشباب النبيلة لم تنجوا من فساد المسؤولين في الدولة، فقد حاول أحد أعضاء مجلس النوَّاب سرقتها حين أعلن عن حملة مشابهة لها! لكن حملته سرعان ما انطفأت من تلقاء نفسها. أما وكيل وزير الثقافة، فقد أصدر بياناً قال فيه أن وزارته دعمت الحملة بـ 14 مليون دينار، ما يعادل 12 ألف دولار تقريباً. لكن المنظِّمين سارعوا إلى تكذيب البيان، وقالوا أنهم رفضوا المبلغ بسبب إملاءات الوزارة التي لا تنسجم مع أهداف الحملة. وهكذا باءت بالفشل محاولات السلطة، عبر بعض رموزها، مصادرة الفكرة أو السيطرة عليها، بينما بعض السلطة الآخر ينقض على الثقافة عبر رمزية شارع المتنبي. حملة "أنا عراقي.. أنا اقرأ" انطلقت بأكبر تجمع للقراءة في حدائق شارع ابي نواس وسط بغداد، يوم 29 أيلول/سبتمبر... بينما المؤسسات الحكومية تقوم بتقديم التبرير تلو الآخر لجرف أكبر شارع للثقافة في بغداد، وهي كلها تشبه العذر الاقبح من الذنب.
أساس حملة "أنا عراقي.. أنا أقرأ"، هو نفسه أساس الاستهجان الكبير الذي واجه به العراقيون مجزرة شارع الكتب: مناهضة مسار توزيع العراق الى طوائف ومذاهب وجهات تتواجه بعصابية تافهة، مآلها الوحيد هو التدمير الذاتي، مستكملة بذلك التدمير الممنهج الذي وقع على العراق من الخارج. فهذه الوضعية التي يسعى الى تسييدها، تطمس خاصية العراق الأساسية، التي صمدت رغم عقود من الديكتاتورية الفظيعة، ورغم الحروب الطاحنة المتتالية، ورغم الحصار القاتل، ثم الاحتلال المباشر لجحافل "الدولة العظمى الوحيدة على الارض"، والهندسة التي سعت الى تطبيقها على العراق بكل ما اوتيت به من قوة. وها هي تصمد اليوم رغم المرور بزمن الابتذال. فقد امتلك هذا المكان على الدوام نواة منصهرة، قلباً واحداً أو عموداً فقرياً ـ لا فرق ـ تَشكَّل حول النهرين العظيمين ونظامهما الزراعي المدهش وشديد التعقيد، مهد الحضارة الإنسانية، الذي طرح شرائع حمورابي من بين سواها،  لتنظيم الاجتماع البشري ومنحه مرجعيات قيمية، كما طرح أسطورة جلجامش كواحدة من أسس الفلسفة حتى اليوم.

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...