كان العراق قبل أن تغزوه قوات الاحتلال الأميركي عام 2003، يفتقد بشكل أساس أبسط تطبيقات قوانين حقوق الإنسان. نظام صدّام حسين استمر، منذ بدء حكمه وحتى الإطاحة به، يفتك بمعارضيه أو بكل من يخالفه الرأي. وكانت عمليات الإعدام تجري بالجملة، فقد أحصت منظمة العفو الدولية أكثر من 800 حالة إعدام بين أعوام 1980 و1983، ومن دون رادع ولا أي خوف من المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان الدولية. انغلق العراق على ذاته قرابة الـ12 عاماً الأخيرة التي سبقت الإطاحة بالنظام. لم يعرف أحد ما كان يحصل في الداخل. واستطاع صدام أن يرشي او يخدع المنظمات التي كانت تأتي للبلد، بغية تقديم صورة جيدة عن العراق، ونجح في هذا الأمر إلى حد كبير. بعد غزو العراق مباشرة، ألغت سلطات الاحتلال الأميركي عقوبة الإعدام أسوة بالدول المتطورة والتي تحترم حقوق الإنسان. ظل هذا القانون سارياً حتى أواسط العام 2004، لكن في 8 آب/أغسطس من العام نفسه، أعادت الحكومة العراقية الموقتة تحت سلطة الاحتلال، تطبيق عقوبة الإعدام. كانت ذريعة إعادة العمل بتطبيق عقوبة الإعدام جاهزة: «محاكمة الذين اقاموا المقابر الجماعية»، في إشارة إلى نظام صدام حسين وأعوانه. وطوال الأعوام العشرة الماضية ظلت الحكومات المتعاقبة تنفذ الإعدام بشكل متزايد عاماً بعد عام، ضاربة عرض الحائط بكل التحذيرات الدولية التي صنّفت العراق على أنه من أشرس الدول التي تطبق هذه العقوبة في الشرق الأوسط... حتى وصلت الاعدامات إلى ذروتها خلال السنة الجارية. ففي العام الذي أعيدت فيه عقوبة الإعدام إلى العمل، لم يسجل العراق أي حالة إعدام، لكن عام 2005 سجّل ثلاث حالات، أما العام 2006 فسجّل 65 حالة اعدام بحسب منظمة العفو الدولي، الأمر الذي دفعها إلى إبداء خشيتها من تنامي نفوذ قوانين الإعدام. و2006 هو العام الذي شهد أكثر الوقائع عنفاً، حيث انتشرت الميليشيات في الشوارع لتبدأ أبشع حملات القتل على الهوية، إضافة إلى القتل العشوائي، وإلقاء الضحايا على الأرصفة من دون ملامح، مقطعي الأوصال بواسطة المثقب الكهربائي. وفيها سجّل تنظيم القاعدة «انتصارات» ومكاسب على الأرض مقابل تراجع نفوذ القوات الأميركية والجيش العراقي. الخشية التي أبدتها منظمة العفو الدولية حينها كانت في محلّها، إذ انسحبت المعركة الطائفية من الشوارع لتدخل إلى مؤسسات الدولة. كانت الوزارات الشيعية لا يستطيع دخولها السنة والعكس صحيح أيضاً. واتهم بيان جبر صولاغ، وزير الداخلية آنذاك، بقيامه بعمليات إعدام بأبشع الطرق تجاه السنة المعتقلين، حيث جرى الإعدام بالمثقاب الكهربائي إياه في أقبية وزارة الداخلية.
سيف الإرهاب وخنجر المخبر السري
لكن عقوبة الإعدام التي تقلصت دولياً بحيث لم تعد تطبق إلا في حوالي 69 دولة، كانت تسبقها حالة نزع الاعترافات بالقوة في العراق، بحسب منظمتي هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، وقد سجلت المنظمتان حالات عدة على ذلك. والأغرب أن هؤلاء المنتزعة منهم الاعترافات سرعان ما يتراجعون عنها أمام المحاكم، إلا ان هذه الاخيرة لا تعير اهتماماً لذلك، على الرغم من قانونيته بحكم انتزاع الاعترافات قسرياً، الأمر الذي أدى إلى الحكم على الكثير منهم بالمؤبد أو الإعدام. وتجري أغلب الاعتقالات في العراق تحت المادة 4 (إرهاب) من القانون رقم 13 لسنة 2005. ويعد هذا القانون من أكثر القوانين العراقية إشكالية وعرضة للانتقاد من قبل المشرعين المحليين والمنظمات الدولية، ولاسيما لجنة مكافحة الإرهاب بمجلس الأمن الدولي المنبثقة عن القرار 1373 الصادر عام 2001، التي أرسلت إلى العراق وعلى مدى السنوات من 2006 ولغاية 2201، تقارير تطالبه فيها بمراجعة قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2005، وإنشاء آلية لمكافحة الإرهاب بصورة جدية في القانون المحلي، بإعادة النظر في القانون لتخليصه من الضبابية، واقتراح أحكام مضبوطة وتعريفات دقيقة للأفعال الإرهابية كي لا تنزلق مستقبلاً الى محاكمات سياسية. وحسب تقييم أولي لهذا القانون، فهناك أحكام فضفاضة لا سيما في المادة الرابعة تتيح تأويلات واسعة، ومن شأنها أن تهدد الحريات العامة حيث أنّه وقعت صياغته بطريقة تسمح بمحاكمة كل شخص يخالف النظام. إلا إن الحكومة العراقية لم تبدِ اهتماماً حقيقياً بالانتقادات الموجهة للقانون، ولا لتقارير المنظمة الدولية الموجهة إليها تباعاً وعلى مدى سبع سنوات. وتعرف «المادة 4 إرهاب» المجرمين على أنهم «كل من ارتكب أيا من الأعمال الإرهابية»، أو «المحرض والمخطط والممول وكل من مكّن الإرهابيين من القيام بالجرائم»، وتتيح المادة فرض عقوبة الإعدام على كل شخص تتم إدانته عملاً بها. وترتبط المادة 4 إرهاب بقانون مكافأة المخبرين بشكل أو بآخر، إذ غالباً ما تتم الاعتقالات، خاصة في المناطق المتوترة، بناء على تقارير المخبر السري. وكشف عدد من المحامين، منهم محامي الرئيس المخلوع صدام حسين، بديع عارف ،عن قيام المخبرين السريين بالإخبار عن أشخاص لا تربطهم بالعمليات الإرهابية أي صلة. وفي بلد تغيب فيه الجهود الاستخبارية بشكل كبير، لا بدَّ للمخبر السري من أن يملأ الفراغ في المنظومة الأمنيّة الهشّة. وينص قانون مكافأة المخبرين (المخبر السري) رقم 33 لعام 2008 بأن «يكون التحقيق في الجرائم المشمولة بأحكام هذا القانون سرياً، وتلتزم الجهة التي تتولى التحقيق بكتمان اسم المخبر». وإثر اندلاع التظاهرات في عدّة محافظات عراقية، سارع مجلس الوزراء العراقي إلى إلغاء هذا القانون، حيث يشتكي أكثر المتظاهرين من زجّ ذويهم في السجون وفق قانون المخبر السري، ما جعله أول المطالب على قائمة المحتجين.
إعدامات جماعية في مسلخ بشري
لطالما كانت ذريعة الإبقاء على عقوبة الإعدام في الحكومات العراقية هي «تنامي عمليات الإرهاب». وعلى الرغم من تسجيل حالات الإعدام الكثيرة التي نفذتها الحكومات العراقية المتعاقبة، إلا أن الإرهاب بقي على ما هو عليه، ولم تستطع الاعتقالات العشوائية والتعذيب في السجون، ردع القائمين عليه (سقط في العراق خلال الشهر الماضي نحو 0100 قتيل جراء العمليات الإرهابية). ويقول وزير العدل، حسن الشمري، في مؤتمر صحفي في نيسان/أبريل الماضي، إن «الحكومة العراقية مضطرة لتنفيذ عقوبات الإعدام نتيجة الظروف التي تعيشها البلاد»، منتقداً «التقارير الدولية التي وضعت العراق بالمرتبة الثالثة من حيث أحكام الإعدام»، مؤكداً أن «الحكومة العراقية ماضية في تنفيذ العقوبة حتى لو صنف العراق بالمرتبة الأولى أو الامتياز»! لكن الحكومات العراقية المصرة على إبقاء عقوبة الإعدام، لم تقم حتى الآن بالاستعانة بنظام إصلاحي يساعد المتورطين بالعمليات المسلحة على إعادة اندماجهم مجدداً في المجتمع، الأمر الذي يدفعها إلى ممارسة العنف مقابل عنف الميليشيات والتنظيمات الإرهابية.
طوابير في طريق الموت
في العام 2012، أعدم العراق شنقاً 129 سجيناً. أما هذا العام ،فقد أعلن وزير العدل عن انتظار مرسوم جمهوري لإعدام 150 شخصاً، فضلاً عن انتظار 1400 محكوم للموت حتى يجيء دورهم. وتتراكم أرقام المعدومين هؤلاء على جداول المنظمات الدولية، فيما تشبّه مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عمليات الإعدام الجماعية في العراق بـ«ذبح الحيوانات في المسلخ». وقد أبدى سفراء الاتحاد الأوروبي في بغداد في بيان لهم، فزعهم من «استمرار الحكومة العراقية بتنفيذ عمليات الإعدام».
وفي الوقت الذي يستمر فيه الفزع الدولي، والاعتراضات التي تبديها منظمات حقوق الإنسان على تفاقم حالات الإعدام، تستمر الميليشيات المسلحة، بشراسة أكبر، بالفتك كل يوم بسكان العراق.. فهل الإعدام دواء الإرهاب؟