إذا كنت تسير على قدميك في بغداد، فستضطر لأن تكون رياضياً تمارس هواية قفز الموانع في أكثر من نقطة على الطريق الذي تسلكه. أما إذا كنت تقود سيارتك، فستضطر إلى الدخول في متاهة لا تعرف أين تنتهي ومتى تصل عبرها إلى المكان الذي تقصده.
إنها غابة الحواجز الاسمنتية (الكونكريتية) التي تنتشر في شوارع بغداد، وظيفتها الرسمية هي حماية مؤسسات الدولة ودوائرها المهمة وبيوتات المسؤولين من أعلى الهرم، وانتهاء بموظفي الدرجة الرابعة وربما الخامسة، من اختراق السيارات المفخخة. هذا علاوة على تدعيم مداخل نقاط التفتيش بالحواجز الكونكريتية والتي توالدت في الفترة الأخيرة لتكون أكثر من الهّم على قلوب العراقيين.
800 دولار أم 100؟؟
هناك أكثر من رواية تكشف أكثر من هدف، لولادة الحواجز الكونكريتية من رحم الاحتلال الاميركي في العراق ومنذ أشهره الاولى، وشخوصها على أضلع المدن والشوارع العراقية. الكلفة المعلنة لقطعة واحدة من هذه الحواجز، وبمساحة (3×1م) تبلغ 800 دولار أميركي، وهي مخصصة لعزل المدن والمؤسسات الحكومية، بينما تبلغ كلفة القطعة بمساحة (2م×80سم) 400 دولار أميركي، وهذه مخصصة لعزل الطرق وتنظيم مرور المركبات أمام نقاط التفتيش. وإذا نظرنا الى شوارع العاصمة المتخمة بهذه الحواجز، لوصلنا الى قناعة مشتركة مع من يقول ان أحد أهداف هذه التخمة هو سرقة الثروات العراقية تحت بند الحواجز الكونكريتية، كواحد من آلاف البنود التي ساهمت بتبخر أموال مقدرة بآلاف مليارات الدنانير، لا سيما أن المختصين يقيمون كلفة القطعة الواحدة من هذه الحواجز بحدود المئة دولار فقط.
كل لدى جماعته
هدف آخر تحققه هذه الحواجز ألا وهو العزل الطائفي بين المدن من جانب، وداخل المدينة الواحدة من جانب آخر، إذ تبين الكثافة في توزيع هذه الحواجز على خارطة المدن، أن القصدية في رسم خطوط عازلة بين الكثافات السكانية ذات اللون الطائفي المحدد واضحة للعيان وتهدف إلى تأجيج الصراع الطائفي منذ وقت مبكر من عمر الاحتلال. فحي الجهاد الواقع في كرخ بغداد، على سبيل المثال، أصبح حيين تفصل بينهما كتل كونكريتية عملاقة: حي الجهاد الشيعي، وتوأمه حي الجهاد السني. هذا الفصل المروع، سهل على المليشيات من الطرفين الضغط على الشيعة في الحي السني وعلى السنة في الحي الشيعي من أجل الهجرة القسرية عن بيوتهم، وإلا فانهم يتعرضون الى القتل المجاني بدم بارد وتحت أنظار الأجهزة الحكومية، بل ومساندتها في بعض الحالات.
كآبة وكساد
جدران العزل الكونكريتية أدت إلى ارتفاع أسعار السلع والبضائع التي تباع في الأسواق الواقعة داخل المدن المسورة. صحيح أن هذا العزل الكونكريتي أدى إلى ولادة أسواق شبه متكاملة بسبب صعوبة التنقل بين المدن، ما يضطر الناس إلى اقتناء حاجياتها من الأسواق الموجودة في مدنهم، وصار من الطبيعي أن تجد محلات تبيع الملابس والعطور ذات الماركات العالمية جنباً إلى جنب مثيلاتها المستوردة من تركيا والصين، إضافة إلى تلك المصنَّعة محلياً، لكن الصحيح أيضاً أن تلك المواد، إضافة إلى الفواكه والخضر ومواد التسوق البيتي كالحبوب والمنظفات، تباع باسعار عالية نتيجة ارتفاع كلفة النقل بالسيارات التي يضطر سائقوها إلى الدوران حول المدينة من أجل الوصول إلى المنفذ الذي غالباً ما يكون المنفذ الوحيد للمدينة، ناهيك عن ساعات الانتظار الطويلة في طابور السيارات المتكدس أمام نقطة التفتيش التي تنتصب أمام تلك البوابة اليتيمة.
كما أن منظر العزل الكونكريتي خلَّف أمراضا نفسية متعددة بين قاطني تلك المدن مقطعة الاوصال، أكثرها شيوعاً مرض الكآبة، إذ يرى الناس أنفسهم كمن يعيش في سجن كبير محوَّط بتلك الكتل العملاقة من الكونكريت، إضافة إلى ما تفرضه هذه الحالة من انقطاع للتواصل بين الأهل والمعارف والاصدقاء. كما أن البعض يرى في التفتيش اليومي الذي يتعرض له من قبل نقاط التفتيش كلما دخل مدينته من منفذها اليتيم امتهاناً لكرامته وانسانيته وقيداً على حريته التي يفترض أن يكفلها الدستور النافذ.
إعلانات مجانية.. وساخرة
هذه الكتل الكونكريتة المنتشرة على أضلع المدن وأرصفة الشوارع أصبحت مساحات مجانية لعرض إعلانات أصحاب الحرف والمهن والمتاجر، إذ لم يخل جدار كونكريتي من عرض إعلان لحدّاد أو حلاق أو سباك أو صيدلية. بعض تلك الإعلانات تعرض بشكل تقليدي، فهي تتحدث من خلال كتابات سريعة ، ومادة ملونة مرشوشة عن المهنة وصاحبها وهاتفه النقال لمن يريد خدماته، لكن بعض تلك الإعلانات يعرض بشكل ساخر يعبِّر معظم الإحيان عن سخط كامن في نفوس المعلنين وهم من قاطني تلك المدن. وبعضها أصبح مادة للتندر على الحكومة وتعبير عن كوميديا شعبية سوداء، منها مثلاً إعلانا يقول "حِلاقة هاني .. اطفر (اقفز) وتلقاني" مع سهم يؤشر باتجاه أعلى الجدار الكونكريتي. وتصبح هذه الجدران سوق عكاظ في المواسم السياسية، إذ تزدحم بملصقات المرشحين للانتخابات البرلمانية أو انتخابات مجالس المحافظات. وهي الأخرى عرضة للتفكه والتندر.
فرحة لم تتم
قبل حوالي سنة، أصدر مجلس الوزراء قراراً برفع بعض تلك الحواجز الكونكريتية تمهيداً لإزالتها بشكل نهائي - نتيجة للتطور الملحوظ في الوضع الأمني- وفقاً للقرار. وبالفعل تنفس الناس الصعداء، وتنفست المدن هواء نقياً معطرا بعناق التواصل الاجتماعي بين العائلات والاصدقاء. كان المشهد يوحي وكأن هذه المدن ولدت من جديد. لكن هذه الفرحة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما عاد الوضع الأمني إلى التفجر بسبب الخلافات بين الكتل والأحزاب المشاركة في العملية السياسية، وسرعان ما عادت الكتل الكونكريتية لتجثم على أضلاع الناس وأضلاع المدن كإجراء احترازي يمثل خياراً وحيداً نتيجة الفشل في تفعيل العمل الاستخباري والرقابة الشعبية كوسائل تحد من فعالية التفجيرات.
المالكي يعرف
والحصيلة هي المزيد من تلك الحمايات، لكن التفجيرات مستمرة ومتصاعدة في بعض مواسمها، غير مبالية لهذا الركام الهائل من الكونكريت والازدحامات المرورية الخانقة التي تخلفها نقاط التفتيش... فدودة السوس تتحرك من داخل الشجرة ذاتها، ورئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ، نوري المالكي، يقول في لقاء مع فضائية العراقية الرسمية، إن تلك التفجيرات تتم "بسيارات الدولة وهويات موظفي الدولة وبغطاء من بعض مسؤولي الدولة"، وإلا "كيف تعبر تلك السيارات من خلال نقاط التفتيش؟" يتساءل المالكي! والناس تتساءل معه، وتضيف تساؤلاً آخر: ما جدوى كل هذه الكتل الكونكريتية ونقاط التفتيش إذاً، ما دمتم تعرفون كل ذلك؟