العراق: حرب مفتوحة بين المرجعية الشيعية والسياسيين

في الوقت الذي أخذ فيه «الوعّاظ» الشيعة في العراق التمدد أكثر من خلال شاشات التلفزيون والإذاعة، تقوم الأحزاب الإسلامية بخلق فجوة كبيرة بينها وبين المرجعية الدينية العليا للشيعة في النجف.وبدت المرجعية، التي كانت داعمة في ثلاثة انتخابات برلمانية للأحزاب الشيعية ـ حيث حثّت لأكثر من مرّة الشيعة على الذهاب إلى صناديق الاقتراع، والتصويت لأحزاب الطائفة ـ بدت متراجعة عن دعمها
2013-08-28

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
تصوير علي الفهداوي - العراق

في الوقت الذي أخذ فيه «الوعّاظ» الشيعة في العراق التمدد أكثر من خلال شاشات التلفزيون والإذاعة، تقوم الأحزاب الإسلامية بخلق فجوة كبيرة بينها وبين المرجعية الدينية العليا للشيعة في النجف.
وبدت المرجعية، التي كانت داعمة في ثلاثة انتخابات برلمانية للأحزاب الشيعية ـ حيث حثّت لأكثر من مرّة الشيعة على الذهاب إلى صناديق الاقتراع، والتصويت لأحزاب الطائفة ـ بدت متراجعة عن دعمها للأحزاب نفسها، لا سيما حزب الدعوة الذي يتزعمه رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي.

حرب التصريحات

في كل يوم جمعة، يقوم أحمد الصافي، الأمين العام للعتبة العباسية، وأحد رجال الدين المقربين من المرجع السيستاني، بتوجيه اللوم للسياسيين بسبب الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية، فضلاً عن توبيخهم لجهة تعطّلهم بحل ملف الكهرباء والخدمات، الأمر الذي ألّب الشارع الشيعي، الذي كان راضياً قبيل مدة قليلة عن «عطاءات الحكومة» والأحزاب الشيعية الحاكمة. وبعد أن كانت المرجعية تسرّب «مهدئات» للصمت على الحكومة، كونها شيعية، بدت هي حاملة لواء مهاجمتها، وبدا السيد علي السيستاني غير راض عن جميع الساسة، حتى بلغ الأمر بأن يرفض لقاء المالكي لأكثر من مرة، وجعل من سفير بعثة الأمم المتحدة إلى العراق مارتن كوبلر وسيطاً بينه وبين السياسيين.
لكن الذي أثار السياسيين هو خطاب الصافي الذي دعا فيه بحزم إلى تخلي البرلمانيين عن مرتباتهم التقاعدية، الأمر الذي أزعج نوابا شيعة، وأشعل فتيل حرب التصريحات والتصريحات المضادة التي اندلعت في الايام الأخيرة بشكل مستغرب. بدأت حرب التصريحات على لسان النائب عن التحالف الوطني عزت الشابندر، المقرب من المالكي، الذي اتهم المرجعية الدينية «بمحاولة انتزاع موقع الولاية عن الدولة من خلال استقطاب مشاعر الناس»، وقال إن «الصافي يعّرض موقع المرجعية ومؤسساتها للتساؤل بسبب مغالاته وتعميمه والاستخفاف بكرامة ووطنية السياسيين والنواب»، وخاطبه قائلا: «من يحاسبك على أدائك ومكتسباتك وامتيازاتك بسبب موقعك؟».
وهاجم التيار الصدري الشابندر ووصفه بـ«السكير» بعد تصريحاته. والتيار هو من دفع بسكان مدينة الصدر إلى شتم السيستاني ودفع شعراء شعبيين إبان الاحتلال الأميركي إلى هجائه، حيث طالبه بفتوى إعلان وجوب الجهاد على المحتل، إلا أنه لم يعر أهمية للأمر، كما أن السيستاني وفق الصدريين - تنصّل من حماية دماء الشيعة أثناء معركة جيش المهدي مع قوات الاحتلال الأميركي في محافظة النجف عام 2005، حين ذهب في رحلة علاج إلى بريطانيا. لكن دفاع التيار هنا عن السيستاني يعني من بين ما يعنيه - البحث عن أرضية جديدة لكسب قاعدة جماهيرية أكبر، تمتد إلى المتعاطفين مع السيستاني من اتباع المالكي، اي زيادة عدد الأصوات في صناديق الاقتراع، وسحب البساط من تحت ائتلاف المالكي الذي يقف على أرضية هشّة.

المالكي... اعتذار مبطن

وتصريح الشابندر ذاك دفع المالكي إلى تقديم اعتذار إلى المرجعية، قائلاً إن رأي الرجل لا يمثل «دولة القانون». وعلى الرغم من عدم قبول المالكي ظاهرياً - بما قاله الشابندر، إلا أن تلك التصريحات مهّدت لخطته التي يود اتباعها في الانتخابات المقبلة، حيث أكد انفتاح ائتلافه على شخصيات من كل الايديولوجيات، العلمانية والدينية، أثناء حوار جمعه بمثقفين وخبراء في شهر رمضان، ما فسِّر على أنه تخلٍ عن تقاليد حزب الدعوة الملتزم.
لكن الغريب في كل هذا، أن تصريحاً مثل تصريح الشابندر كان لن يمر مرور الكرام من دون أن تنطلق تظاهرات مؤيدة للسيستاني ومطالبة في الوقت نفسه برفع الحصانة عن النائب. فهل يعني ذلك تراجعا في نفوذ المرجعية في الشارع العراقي؟ يعتد اصحاب هذا الرأي بضعف المشاركة في الانتخابات المحلية التي جرت في 20 نيسان/أبريل من هذا العام، التي دعا فيها أئمة مساجد إلى المشاركة بقوّة في التصويت، دون ان تجد هذه الدعوات آذاناً صاغية.

ليس الشيعة وحدهم

ولا يقتصر أمر مهاجمة المرجعية على النواب الشيعة فقط، إذ انتقد النائب عن التحالف الكردستاني فرهاد الاتروشي في 5 آب/اغسطس المرجعية قائلا ان «المرجعية هي شيعية دينية، ولا يليق بها ان تتدخل في تفاصيل الشؤون السياسية للدولة، وعليها أن تحتفظ بالخطوط العامة، وهذا أمر غير مقبول، ونحن لسنا دولة دينية»، موضحاً ان «المرجعية تأمر ومجلس النواب ينفذ، نحن دولة مدنية ومجلس النواب هو من يقرر. هنالك أحزاب سياسية لا تقبل بهذا الشيء، سواء ما يتعلق برواتب التقاعد أو بأمور ومواضيع اخرى».
وفي الوقت الذي لم يصدر عن القيادات الشيعية ما يؤكد عدم غضبها من انتقاد الاتروشي، فان رئيس كتلة التحالف الكردستاني في مجلس النواب فؤاد معصوم قدم اعتذاراً مبطناً عن تصريحاته في بيان قال فيه ان «التحالف الكردستاني يكن كل التقدير والاحترام للمرجعيات العظام»، مضيفا أن «المرجعيات ليست طرفاً سياسياً ليكون التعامل معها سياسياً، فالمرجعية خط احمر لا يمكن المساس به».
كما أن النائب الكردي عارف طيفور استبق جميع زملائه حين طالب المرجعية ورجال الدين والمؤسسات الدينية بالكشف عن «مواردهم وذممهم المالية أمام الشعب العراقي وتقديمها الى هيئة النزاهة».
وفي حال وجدت المرجعية هذه المرّة نفسها عزلاء أمام غليان السياسيين تجاه تصريحاتها، إلا أنها لم تنأ بنفسها عن حرب التصريحات هذه المرة، كما درجت على ذلك في تعاملها مع تقارير ومقالات صحفية نشرتها وسائل إعلام عراقية وعربية، بل دفعت حيدر الغرابي، احد المقربين من المرجعية، والاستاذ في الحوزة العلمية، إلى القول رداً على تصريحات النائبين الشابندر والاتروشي،انه «لم يكن بمقدور أكبرهم الوصول إليها (الحكومة) لولا دعم المرجعية»، مضيفا أن «المرجعية الدينية بإمكانها بكلمة واحدة أن تسقط هؤلاء السياسيين وعمليتهم السياسية التي أنتجت دستوراً فاشلاً، ولعل أهم ما سيسقط مع الدستور هو الفيدرالية التي يتمتع بها الأتروشي اليوم والتي جعلته يأخذ أكثر من حقه».
كما انبرى ممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 9 آب/أغسطس للدفاع عن المرجعية بالقول إن «منهج المرجعية الدينية العليا المتمثلة بالسيد السيستاني، في تحركاتها وبيان مواقفها وما يطرح في خطب الجمعة من نقد بنَّاء ومطالبات، يخص المواطنين انطلاقا من موقع رصيدها الجماهيري والشعبي، لا من موقعها الديني»، موضحاً «حينما ترى المرجعية العليا استشراء الفساد المالي والاداري والفرق الفاحش في الرواتب والبطالة المتفشية والنقص الكبير في الخدمات والوضع الامني المتدهور، ولا ترى حلولا تلوح في الافق القريب لكل تلك المشاكل، فلا بد أن تتحدث المرجعية العليا وتنتقد وتعبر عن آراء الناس مهما كان الثمن، لانها أمانة إلهية».
وهذه هي المرة الاولى التي تنتقد فيها المرجعية الدينية علنا العملية السياسية وتصف الدستور بالفاشل وتهدد بإسقاط الفيدرالية، بعد ان كانت قد صمتت في ما مضى عن ادعاءات كتل سياسية بدعم المرجعية لها عبر وضع صور بعض مراجع الدين الشيعة على لافتات حملاتهم الانتخابية، لا سيما صورة المرجع الديني الاعلى السيد علي السيستاني. كما يبين الموقف الثاني للشيخ الكربلائي دخول المرجعية على خطّ اللعبة السياسية بشكل واضح، حيث يصعّد أحد أفرادها، فيما يحاول آخر تهدئة الأمور وإعادتها إلى نصابها.

وللسنة مواقفهم

إلا أن التطور الأخطر في حرب المرجعية والسياسيين هو تسريب فيلم يصور لقاء بين المرجع الشيعي بشير النجيفي ورئيس مجلس النواب اسامة النجيفي (وهو سني من الموصل) في مقر إقامة المرجع عام 2011، وعرْضه من على الفضائيات، حيث طالب المرجع النجفي بإلغاء مرتبات تقاعد البرلمانيين، وهو المطلب الذي تتبناه الآن شرائح واسعة من الشعب العراقي، والذي انضمت للمطالبة به كتل واحزاب وشخصيات مشاركة في العملية السياسية، ومنهم نواب في البرلمان ووزراء في الحكومة. ويعرض الفيلم وعداً لأسامة النجيفي بعرض طلب المرجع النجيفي ومناقشته في البرلمان. إلا ان رئيس البرلمان العراقي لم يفِ بوعده بالرغم من مرور عامين على ذلك اللقاء، مما يعني أن أقطاب العملية السياسية لا يولون أهمية لمطالب وفتاوى المرجعيات الدينية، الّا عندما يتعلق الأمر بمصالحهم الخاصة.

انفراط العقد

حرب التصريحات بين المرجعية الدينية الشيعية والسياسيين في العراق كشفت عن نأي بالنفس في الشارع العراقي. فالعراقيون الشيعة الذين وجدوا في المرجعية ملاذاً ضامناً في دنياهم، وكانوا ليدافعوا عنها بالسيوف إبان الغليان الطائفي في العراق أعوام 2006 و2007، باتوا غير مبالين كثيراً بالحرب الطاحنة التي تدور بينها وبين السياسيين الذين حاولت المرجعية عدم التورط معهم، خاصة حين ناهضت حزب «الدعوة» منذ الستينيات، وأمرت محمد باقر الصدر بالامتناع من التنظير له، وسحب المرجع الأعلى آنذاك، السيد محسن الحكيم، وَلَدَيْهِ من تنظيم الحزب، لأنه «سيضر بمصالح الشيعة»، بمقابل دعمها لتأسيس تنظيم الإخوان المسلمين في العراق. كل هذا يخلق لعبة سياسية جديدة، يكون في وسطها المجتمع الشيعي، الذي تسعى المرجعية الى جرّه إليها - وهي الأقرب إليه - طالما أن ما يبدو من سياسات الأحزاب العراقية إبان كل انتخابات، هو دحرجة الصخرة الطائفية إلى المدن المكتظة بالخراب والبؤس.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...