الـتحرش الجنسي في العراق: نساء بين فحولة الوظيفة وشارع العشيرة

شابة جميلة تبدو آثار الحمل واضحة عليها، تسير في الشارع. يلاحقها شاب بكلمات يعتقد انها غزل معسول، يقول لها "نيال يللي نفخك"، تردُّ عليه ببديهة "أأحضره لينفخك؟". هذه النكتة من مرويات المجتمع العراقي التي تتحدّث عن حالات التحرش التي تتعرض لها المرأة في العراق. إنها نكتة يكاد أغلب العراقيين يحفظونها. وربما تكون من صنيعة امرأة ملّت التحرش بها أثناء خروجها من المنزل، إذ
2013-06-12

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
هيف كهرمان ــ العراق

شابة جميلة تبدو آثار الحمل واضحة عليها، تسير في الشارع. يلاحقها شاب بكلمات يعتقد انها غزل معسول، يقول لها "نيال يللي نفخك"، تردُّ عليه ببديهة "أأحضره لينفخك؟". هذه النكتة من مرويات المجتمع العراقي التي تتحدّث عن حالات التحرش التي تتعرض لها المرأة في العراق. إنها نكتة يكاد أغلب العراقيين يحفظونها. وربما تكون من صنيعة امرأة ملّت التحرش بها أثناء خروجها من المنزل، إذ هي تظهر المرأة وكأنها تدافع عن نفسها بالسلاح ذاته الموجه ضدها. إنه اللجوء إلى الساتر الأخير الذي تمليه معركة غير متكافئة بين الذكر والأنثى في مجتمع بطريركي ذكوري يمنح الغلبة للرجل في أي احتكاك بين الطرفين.

... ونكتة مضادة

لكن الشباب لا يستسلمون ببساطة في هذه المعركة الشائكة. فثمة نكتة مضادة يتناقلها الشباب على صفحات التواصل الاجتماعي، مفادها أن شابة تنقل بامتعاض كيفية تعرضها للتحرش الجنسي في الشارع، إذ توقفت بجانبها سيارة فارهة يقودها شاب مستهتر، تقول انه دعاها للصعود معه في السيارة والثمن هو هدية عبارة عن جهاز آيفون لوح لها به من داخل السيارة، وتضيف انها نهرته وصدته بحزم. لكن المفاجأة انها تكتب قصتها على صفحتها في الفيسبوك من الآيفون/ الهدية.

المجتمع يلي عنق الحادث

وفي العراق أصبحت ظاهرة التحرش الجنسي بالنساء جزءاً من يومياتهن في الشارع أو العمل. سائق التاكسي يجد المرأة فريسة سهلة للتحرش حين تركب معه لوحدها، وفي الباصات هناك الكثير من الشبان المتبرعين للقيام بهذا الدور، أما أماكن العمل فهي خليَّة كبيرة منتجة للتحرّش. والتحرش في العراق لا ينغلق في مكان وينفتح في آخر، إذ أن كل الأماكن تقريباً صالحة للتحرّش. فإثر اعتماد المجتمع العراقي على النظام العشائري في تسيير أموره الحياتية، بعد الغياب الواضح لملامح الدولة، تصبح المرأة رهينة أمزجة الرجال. وهي مهما حاولت الاستقلالية من خلال الدراسة والعمل، تحرص المرجعية العشائرية على وضع الاصفاد في يديها، الأمر الذي يجعلها سجينة العقل الفحولي طيلة حياتها. وقد يؤدي إخبار المرأة أهلها عن حصول حادثة تحرش لها من قبل أحد الشبان إلى حفر نهر من الدم قد لا يجف لسنوات بين عشيرتين، وسيؤدي هذا الأمر إلى جعل المرأة مكروهة لدى الرجال لأنها تسببت بفتنة كبيرة، ما يجعلها حبيسة حيطان أربعة حتى مماتها، فضلاً عن انتشار مرويات تتناقلها ألسُن الرجال على أنها المغوية للشاب. وهكذا تصبح جميع النساء العراقيات "زليخة" أو "حواء"، بينما يصبح أشد الرجال قبحاً "يوسف" أو "آدم".

إحصائيات شحيحة

ومثل كل شيء تعمه الفوضى، وقابل للتأويل متعدد الأوجه، فإن الإحصائيات بشأن تعرَّض المرأة للتحرش قضية خاضعة للتضخيم المتعمد من جانب، وخاضعة أيضاً لقيم التابو السائد من جانب آخر. إلا أن منظمة "بوينت" المتخصصة باستطلاعات الرأي والدراسات الاستراتيجية أجرت استطلاعا في عام 2009 شمل خمس محافظات عراقية، ثلاث منها في إقليم كردستان واثنتان تشكلان تنوعاً ثقافياً عراقيا كبيراً، إذ تضمان قوميات عدة، هي "الكردية والتركمانية والكلدوآشورية، والعربية"، وهما كركوك والموصل. وأظهر الاستطلاع أن 73.7 في المئة من المشاركات (وهن 500 امرأة من كافة الأعمار) قد تعرضن فعلاً إلى التحرش الجنسي ضمن نطاق وظائفهن، وأشارت النتائج إلى أن 74.5 في المئة من اللواتي تعرضن للتحرش الجنسي لم يخبرن أحداً عن تعرضهن له. لكن المتعرضات للتحرش لم يواجهن المتحرش بحسب 67.5 في المئة من المشاركات بالاستطلاع، حيث فضلت 58.6 بالمئة منهن تجاهل المتحرش بهن وعدم أيلاء الأمر أهمية. الأدهى من كل ذلك هو اعتقاد 85.1 في المئة من المشاركات بأن القانون لن ينصفهن في حال الإخبار عن تعرضهن للتحرش الجنسي، الأمر الذي يدفعهن إلى السكوت وإخفاء الأمر بسبب الخشية من الفضيحة! إلا أن أغرب ما يظهره الاستطلاع هو أن المتحرشين هم بأغلبهم من ذوي المناصب الأعلى والأرفع في السلم الوظيفي. فقد أكدت 69.3 في المئة من المشاركات بأنهن يتعرضن للتحرش الجنسي فقط من الذين هم أعلى منهن وظيفياً، وتسبب هذا لـ83.7 في المئة من المشاركات بتعرضهن لضرر وظيفي بسبب رفضهن للتحرش الجنسي. وهذا يدخل في باب استغلال النساء.

التحرش والتسلط
لكن أفعال التحرش لا تقتصر على الوظائف الحكومية والخاصة العادية، حيث أنه ينسحب إلى مناطق أكثر حساسية، وأكثر فعالية من جهة البحث والكشف عن أمور يتعرّض لها المجتمع. فبحسب استبيان اجراه منتدى الإعلاميات العراقيات خلال هذا العام فإن 68 في المئة من العاملات في حقل الصحافة والإعلام يتعرّضن للتحرش اللفظي أو محاولة الاعتداء. ويؤكد استبيان المنتدى، الذي شمل 200 صحافية، أن 42 في المئة من أولئك الصحافيات واصلن العمل بعد تعرضهن للتحرش، فيما تركت 45 في المئة منهن العمل، و13 في المئة تم طردهن بعد التحرش بهن. ويشير الاستبيان إلى أن أعمار أغلب الصحافيات اللواتي يتعرضن إلى التحرش هي ما بين 20- 30 عاماً. ويرى الاستبيان أن هناك نتائج (إيجابية) حصل عليها، إذ أظهر أن 79 في المئة من الصحافيات لم يتعرضن في هذا الباب للتمييز لأسباب طائفية! كيف تقوم المرأة الصحافية في العراق بالكشف عن مكامن الفساد، والبحث عن الحقائق فيما هي لا تستطيع الدفاع عن حقوقها في مؤسسات هشّة؟

عذر اقبح من ذنب

في كانون الأول /ديسمبر عام 2010 ، ضجّ البرلمان العراقي بحادثة تحرّش بإحدى النائبات عن التحالف الكردستاني من قبل أحد افراد "حمايات" نائب عن دولة القانون. النائبة الممثلة للشعب، والتي من المفترض أنها ستقوم بتشريع حقوقه وحمايته لم تكشف عن هويتها واكتفى الإعلام بتقديم حروف اسمها الأولى، ولم تشتك النائبة للقضاء على المتحرش، بل أنها قامت بالذهاب إلى رئيس البرلمان أسامة النجيفي من أجل تقديم الشكوى. في البدء أنكر المتحرش قيامه بالفعل، لكن كاميرات المراقبة كشفت فعلته، الأمر الذي دفعه إلى القول بأنه "لم يعتقد أن هذه المرأة نائبة، بل أنها إحدى الموظفات في مبنى البرلمان"، سرعان ما لفلفت القضية ونسيت، وانتشر حينها انها اغلقت بطريقة المصالحة والضغط بين التحالفين الكردستاني ودولة القانون . النائبة التي كان من المفترض ان تكشف عن هذه القضية للإعلام، وأن تعمم الموضوع على المجتمع بكامله، لاسيما وأن أفراد الحمايات هؤلاء ينتشرون في شتى الأماكن في البلاد، ويقومون بابتزاز الفتيات في الدوائر الحكومية... صمتت. فكيف لا تصمت النساء اللواتي لا يتمتعن بسلطة وامتيازات السيدة النائبة؟ قضية تحرّش أخرى بطلها نائب عن ائتلاف دولة القانون، لكنها هذه المرّة خارج العراق، في القاهرة بالتحديد. فتحت هذه القضية باب المزاح على مصراعيه. الحكاية التي روتها وكالات أنباء متعددة مفادها أنه في آب /أغسطس من عام 2012 ، قام عضو لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان العراقي علي الشلاه بالطلب من الفنانة المصرية غادة عبد الرازق بالتقاط صورة معها، لكن الشلاه سرعان ما وضع يده حول كتفها، ما دفع الفنانة المصرية إلى توبيخه وتدخل أمن فندق رويال في القاهرة في فض النزاع. اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات: "غادة عبد الرازق تستحق.. هي جميلة"، يعلّق أحدهم، سرعان ما يجيب آخر "عاشت يده.. هي ناقة"، الكثير من وسائل الإعلام في العراق عتّمت على هذا الموضوع. نفى الشلاه الحادثة وانتهت القصة مثلما انتهت قصة التحرش بالنائبة. منتدى الإعلاميات العراقيات يؤكد على حصول اعتداءات وتجاوزات عديدة على الصحافيات في داخل مجلس النواب، سواء من قبل برلمانيين او إعلاميين، موضحاً أن البرلمان لم يتخذ أي إجراء للحد منها. في المحصلة: سياسيات يتعرضن للتحرش، وسياسيون يقومون به، إعلاميات يلجأن للصمت خوفاً من الفضيحة، والاستمرار في العمل بعد التحرّش بهن، وإحصائيات غائبة تماماً. وأما السر فهو في حدوث كل ذلك وتفاقمه في بلد يفترض ظاهره أن منسوب التدين (المتشدد) لدى كل المذاهب الى ارتفاع، وهو يفخر بأنه استعاد ركائزه العشائرية التي تعتبر مثل هذا الاعتداء على المرأة من الكبائر.
 

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...