"قد يحرقون العربة.. أو ندخل في شجار عنيف.. ليس باستطاعتنا تحديهم». بهذه الكلمات يردّ عتّال في ساحة الرصافي وسط بغداد على سؤال حول رضاه بالعمل على عربة حمل خشبيّة يستأجرها من مالك عربات كل يوم ليدور فيها بأسواق الجملة بدل أن يشتري واحدة.
هذا أحد الحوارات التي ينقلها الفيلم الوثائقي «حمالو بغداد» عن الحمّالين في سوق «الشورجة»، أكبر أسواق الجملة في بغداد، حيث لم يسلّط على هؤلاء الضوء من قبل، وبقيت مجهولة معاناتهم من الظلم اليومي الذي يحيق بهم في ظلِّ عدم تفعيل دور النقابات العماليّة التي لم ينتمِ إليها 77 في المئة من عمّال العراق، بحسب استبيان لمنظمة المسلّة. يقدّم الفيلم (مدته 40 دقيقة، أعدّه الروائي العراقي ضياء الخالدي، وأخرجه حيدر جواد) نظرة عن حال هؤلاء القادمين من أقاصي الجنوب، والاحياء المنهكة في بغداد، وهم يجرّون عربات حمولة تزن الواحدة منها أكثر من طن من الألبسة والأقمشة كل يوم وطيلة ستة أيام في الأسبوع، بمعدّل عمل يتجاوز الأربع عشرة ساعة. يبدو مشهداً ذكيّاً ذلك الذي يتحدّث فيه الحمّال عن كدّ جرّ العربة فيما يقوم المخرج بإظهار حمار محني الرأس في ظهيرة عراقيّة قائظة. يصبح الإنسان مُستَغلاً أكثر من الحمار في الكثير من الأحيان في بغداد اليوم. يحرن الحمار إذا ما جاع. يتوقّف عن العمل حتّى يأكل، إلا أن شاباً يجمع فلساً فوق آخر من أجل الزواج، يعمل حتّى المساء دون أن يأكل لقمة واحدة خشية من هدر المال الذي يدخره، بينما يرى 52 في المئة من العمال في بغداد أن مواقع عملهم لا تتوفّر فيها شروط السلامة.
يحكي الفيلم عن أولئك العمّال المياومين الذين يعملون أجراء عند «الإقطاعي»، صاحب العربة المسنود من التجّار وبعض رجالات الأمن، والعشيرة القويّة، والذي يجلس تحت مظلّة وهو يتابع حركة عرباته المحملة بذهابها وإيابها أمام ناظريه وهو يعدّ الحمولات على الحمّالين.
أين المفرّ؟
يكسب الحمّال جراء كل نقلة نحو 5 آلاف دينار (4 دولارات)، يأخذ صاحب العربة ثلثها وهو جالس تحت خيمته الصغيرة، يحتسي الشاي وينفث دخان سيجارته في الهواء. ويكلِّف الحمّال شراء عربة نحو (400 دولار)، ومعظمهم قادر على شرائها والتخلص من سطوة ذلك الرجل، إلا أن ذلك سيكون وبالاً عليه، لأن أصحاب العربات (يمتلك كل واحد منهم نحو 60 عربة) الذين يحتكرون السوق، سيصبون عليه جام غضبهم وربما سيطردونه من السوق أيضاً، ما يجعل حياته في خطر، وإذا ما طرد فإنه سيجوع لأن ليس لدى 81 في المئة من عمّال بغداد ضمان اجتماعي.
إنها حكاية العبودية الجديدة، والمرابين الجدد الذين ولدوا من رحم الديمقراطية في العراق (الجديد). إنها صورة من صور بغداد في الألفيّة الثالثة، حيث السوق مفتوحة كغابة يسودها المرابون بسبب عدم وجود قانون يحمي العمّال بعد أن حوّل نظام صدّام حسين، بمرسوم جمهوري، العمّال إلى موظفين. وظلّ هذا القانون سارياً حتّى الآن، فضلاً عن عدم اهتمام منظمات حقوق الإنسان المحليّة والدولية بشؤون العمّال المياومين. يسرد الفيلم حكاية أناس رضخوا «للبرجوازية» الطفيلية التي نمت على تخوم موجات الخراب الذي لحق بالاقتصاد العراقي، بسبب الحصار الدولي الذي فرض على العراق مطلع التسعينيات، وزاد نفوذهم بعد احتلال بغداد عام 2003 الذي أدّى إلى خلخلة الطبقات.
سيبدو الأمر أكثر غرابة حين يحمل الخريجون على ظهورهم صناديق الأقمشة والألبسة في ظلّ غياب تكافؤ فرص الحصول على وظائف الدولة، وانمحاق القطاع الخاص. وسيبدو الأمر منطقياً أكثر لعتّالين تركوا مقاعد الدراسة مبكّراً والتحقوا بالعمل، وسيصير الأمر محبطاً لأولئك الشبّان الذين تخرجوا والتحقوا بالدراسات العليا في حلم الحصول على وظائف تثير اهتمامهم وتستفيد من معارفهم وتمنحهم دخلاً لائقاً.
أمانة بغداد لم تخطط لنقل هذه السوق إلى منطقة أخرى طالما أن المكان لم يعد يستوعب نشاطه، وليس ثمة موقف لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي تمتلك نحو 150 مفتشاً يعملون على ضمان حقوق العمّال الصحيّة، ولا لوزارة حقوق الإنسان، سوى الصمت الذي يبدو متواطئاً مع الاستغلال الذي يتعرض له هؤلاء العمّال.
عراق الألفيّة الثالثة المتخم بأحاديث وخطب السياسيين عن الديمقراطية وتداول السلطة، وافق على 61 اتفاقية من مجموع 188 اتفاقية أصدرتها منظمة العمل الدولية. وحتّى هذا الرقم الضئيل من الاتفاقيات، لم يلتزم العراق إلا بتطبيق جزء صغير منه، بحسب منظمة المسلّة للتنمية البشرية، التي تؤكد أن العراق أيضاً لم يلتزم حتّى عام 2012 بـ«16» اتفاقية وافق عليها عام 1987 من أصل 19 عرضتها «منظمة العمل العربية» التابعة لجامعة الدول العربية.