مثّلت العشيرة، كمؤسسة اجتماعية، طوال التاريخ السياسي العراقي الحديث نقطة استقطاب مهمة للسياسيين من خلال نفوذها الذي يصعد أو يهبط وفق معيار عكسي مع صعود أو هبوط تقاليد المدَنية في بنية الدولة والمجتمع.
شهدت الدولة العراقية الحديثة، منذ تأسيسها في مطلع عشرينيات القرن الماضي، صفقات معلنة وأخرى خفية مع العشائر، فقدم بعضها بموجب هذه الصفقات موقفاً حيادياً من «معارك الاستقلال»، فوفّر أصوات أبنائها منذ أول انتخابات شهدها العراق (1925) مقابل امتيازات حصلت عليها تمثلت بمساحات واسعة من الأراضي الأميرية أو المشاعية للشيوخ، ووظائف في أجهزة الدولة منحت للأبناء والمقربين.
وكانت المس جيرترود بيل، المستشارة الأولى للحاكم البريطاني وسكرتيرة المندوب السامي في العراق أثناء الاحتلال البريطاني، قد انتبهت مبكراً لتأثير العشيرة، وصارت تلتقي شيوخ العشائر النافذين بشكل مستمر، ومنحت الكثير منهم الأراضي مقابل حفاظهم على أرواح الجنود الانجليز. وهذا حدث في سياق استنتاجات بريطانية من ثورة العشرين التي كادت تنتصر.
وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وضمن لعبته المعهودة في التحكم بتوزيع النفوذ، كان الرئيس العراقي السابق صدّام حسين يلتقي شيوخ العشائر في قصوره دورياً، بل إنه صنَع شيوخاً بدلاء لغير المتعاونين منهم (صار اسمهم «شيوخ الحكومة») وشغّلهم كمخبرين عن الفارّين من الخدمة العسكرية، والمناوئين لسلطته.
وبعد عام 2003، لجأ الاحتلال الأميركي والسياسيون الذين جاؤوا معه، إلى سلطة العشيرة، إذ عقد الاحتلال صفقات عدة مع العشائر ليحظى بالأمان ويخفّف من حدّة المقاومة ضدّه، فيما عقدت الأحزاب التي تخوض الانتخابات صفقات أخرى مع شيوخ العشائر من أجل ضمان وصول مرشحيها إلى البرلمان.
وفي كل هذا يتداخل عنصران: الأول هو قوة البنية العشائرية، لاسيما في زمن التراجعات الاجتماعية وانهيار المشروع الوطني/التنموي وانتشار الجوع والافتقاد للامان، فتلعب دور الحواضن بغياب سواها... والثاني يقع في باب الاصطناع، أو توظيف الصلة بالعشائر لأغراض سياسية سلطوية مباشرة، وذلك عبر دعم من يتجاوب منهم بالمال والسلاح والخدمات، فيتعزز نفوذه، أو وكما فعل صدام حسين، عبر إيجاد شيوخ حكومة مطواعين.
انتخابات على الأبواب
في 30 نيسان /ابريل المقبل ستجرى الانتخابات النيابية في العراق، وسيشارك فيها نحو 107 كيانات سياسية. وعلى الرغم من أن ظواهر متعددة ومتناقضة ترافق التحضيرات لها، إلا أن العودة إلى حضن العشيرة هي الأقوى من بينها، حيث يبحث المرشَّح مدفوعاً من رئيس كتلته عن الأصوات بفضل رابطة الدم، الذي إذا لم يضخّ جيّداً فستكون فرص نيله مقعداً داخل البرلمان ضعيفة.
المرشحون من أبناء العشيرة يعلنون ترشيحهم ضمن قوائم الكتل والأحزاب دون الرجوع إلى شيوخهم. ولأن معظم الأحزاب تضعهم في ذيل القائمة الانتخابية، فهم يلجأون إلى عشيرتهم لضمان أصوات أبنائها. الشيخ بدوره يعرف قوانين اللعبة، لذا فهو لن يترك الأمر فضفاضاً: يقوم بتدقيق أوراق المرشحين، وبعدها يفاضل بينهم، ثم يومئ إلى انتخاب أشخاص بعينهم وترك الآخرين. وهذه المفاضلة تجري بعيداً عن السياسة والكتل والتوافق والديمقراطية، وعن متطلبات الدولة المدنية، وعلاقة الفرد بالدولة.
ويعرف شيخ العشيرة والمرشَّح ما يريد كل منهما من الآخر. الأول يوظف اللحظة لتأكيد تأثيره على أبناء العشيرة، وللاستمتاع بالحاجة السياسية لدوره القيادي. أما الثاني فهو يريد المكوث داخل قبّة البرلمان إذا كان نائباً، أو الوصول إلى مقعد إذا كان مرشحاً جديداً، واعداً بتأمين الوظائف ورخص السلاح والغطاء الحكومي لأبناء عمومته فور «وصوله».
قبل أربعة أشهر من موعد الانتخابات بدأ أغلب المرشحين جولاتهم على مضايف «أولاد العمّ» والشيوخ المؤثرين، يشرحون لهم عن المظلوميّة السياسية التي تتعرّض لها العشيرة مقارنة بالعشائر الأخرى التي تمتلك نوّاباً ونفوذاً في الحكومة.
العقد الاجتماعي
يعمل المرشح، الذي يجلس مقرفصاً على الأرض وهو يطقطق بمسبحته، على إثارة التضامن معه في نفوس أوّلاد عمّه. يبدي لطفاً عجيباً مع الآخرين. يجلس الصغار على حجره ويداعب رؤوسهم، ويكلم الشبّان عن دورهم القادم في الحياة العراقيّة. ويخبرهم أنهم الأمل في بناء البلاد. ولا يتوانى عن تزكية أحدهم لتهيئته الى دخول المعترك السياسي. يجسُّ النبض الطائفي عند الجالسين في المضافة، وإذا ما وجد انزعاجاً من هذا الأمر يسارع إلى القول إنه ليس طائفياً، لكنه أراد أن يستشف الهوية الوطنية لأبناء عمومته.يجلس المرشح في بيت العشيرة وأمام شيخها وهو يستمع إلى خطبة وعظيّة عما يجب القيام به في حال وصل إلى البرلمان. وعمّا يجب فعله لأخوته وأبناء حَمْولته، وأن لا ينساهم في توزيع المناصب والمغانم عبر كتلته السياسيّة التي ترشّح من خلالها.
فجأة يتلبَّس شيخ العشيرة جان جاك روسو، فينظّم علاقة الفرد بالدولة، ويبيح للآخرين قول آرائهم صراحة بالمنافسين لمرشّحهم في الكتل السياسية الأخرى، ويجعلهم يقارنون بينه وبين مرشحي العشائر المتبقيّة. ينفعل الشيخ أكثر، ويردد بعجالة غير مفهومة عمن يجب أن يشكّل الحكومة من الأحزاب، لكنه سرعان ما يتراجع حين يتذكّر أن أولاد حَمْولته من المرشحين موزعين على تلك الأحزاب، وأنه يجب أن يدعمهم جميعاً، لتظفر العشيرة بسياسيين في جميع الكتل، ويحصلون من خلالهم على المزيد من الوظائف في الدولة، وينتهون من الوقوف في طوابير المعاملات الطويلة.
ولا يكتفي الشيخ بوضع معالم «العقد الاجتماعي» بين المرشَّح وأبناء العشيرة، بل يعين للمرشح السلوك الواجب إتباعه، فينصحه بأن يتقرّب من أبناء عمومته أكثر قبيل موعد الانتخابات، وأن يُكثر من الولائم، وزيارة المرضى ومجالس العزاء والأعراس، وأن يذكر اسم العشيرة على شاشة التلفاز لتصبح لها سطوة أكثر في الشارع.
قوانين.. بلا طائل
لا يقدّم المرشّح برنامجاً انتخابياً لأبناء عشيرته. الأمر يجري خارج السياق السياسي. ويتحوّل المرشحون المنافسون إلى خصوم يجب تجاوزهم عبر تسقيطهم اجتماعياً من خلال كشف قصورهم في متابعة شؤون العشيرة ومناسباتها. لا بد أن تخرج اصطلاحات مثل «الديموقراطية» و«بناء المجتمع» أثناء الحديث، إلا أن هذه تبدو كديكور ليس أكثر. وسيصمت شيخ العشيرة مجدداً، ويصمت معه أولاد حمولته، طالما أنه قرّر دخول اللعبة السياسية وفق القواعد التي يوفرها المرشحون، مهما طالهم من حيف الحكومة.
ووفق هذا أيضاً، لن تبدو للقوانين التي سيصوّت عليها النوّاب الذين وصلوا بالرافعة العشائرية إلى البرلمان أي معنى أو جدوى، وربما أن الكثير من هؤلاء لا يؤمنون أصلاً بواجبهم التشريعي قدر إيمانهم بالجاه والمال والغطاء.
الملاسنة التي جرت بين أمين بغداد وأحد النواب في البرلمان في العام الماضي، أدّت إلى «تفاصل» المسؤولَان خارج النطاق القانوني، ووفق الأعراف العشائرية. وهذا خير دليل على ثقلها في حّل المشكلات... أكثر من القوانين.
وعلى سبيل النكتة الواقعية جدا، ففي عام 2011 ذهب رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي إلى محافظة بابل للالتقاء بشيوخ عشائر هناك. وعند وصوله إلى المنصّة، سارع أحد الشيوخ لمدحه بأهزوجة تحثّه على الاحتفاظ بالسلطة وعدم منحها لأيٍّ كان، فسارع المالكي بدوره إلى التلميح بأن «ليس هناك أحد باستطاعته أخذها منه» (وبالعراقي: «بعد ما ننْطيها»)، التي أصبحت من مفردات القاموس السياسي الجديد.