لم أعتقد أبداً أن الجميع كانوا في ورشة الحياة يُصلّحون الانتظار. ورشة كبيرة، يمسك كلّ طرف منهم بأداة لترميمه من العطب، حتّى لا يتعطّل. منذ أيام رنَّ الهاتف وهو يأتي بخبر وصول دفعة من الأسرى العراقيين من إيران. كانت الأصوات تتداخل، «شوف معارفك واعرف اذا ما كان بينهم».
لم ينسوه إذاً، بعد مرور 26 عاماً على فقدانه. استحضروا مجدداً قصصه وحكاياته، إنه دون كيشوت العائلة الذي أمسك سيفاً خشبيّاً وحارب الأيام، لكنها خانته. حسين ما زال عالقاً فيهم رغم كل الحروب والفقدانات التي عاشوها طوال العقدين الماضيين.كنت أعلم أن الخبر كاذب، لكنهم يوهمون أنفسهم بعودته. أتابع صفحة على «فايسبوك» مختصة بأخبار أسرى تلك الحرب.
أخبار يتداولها أسرى سابقون، تشير إلى وفاة رفاق لهم جرى دفنهم في إيران، منهم من يعرفون اسماءهم ومنهم من لا يعرفونها. وقد يكون عمي حسين واحداً ممن تُروى قصصهم تلك.منذ أيام، لم يكن ما قادني إلى تلك الصفحة هو الفضول المعتاد، ولا الصدفة، وإنما خبر وصول 400 أسير إلى محافظة السليمانية شمال العراق. لم يصمت الهاتف جراء اتصال وإلحاح عمّاتي وأبنائهن من أجل إيجاد اسم «حسين فاضل عبدالله»، شقيقهن الأصغر الذي فُقد في الحرب، بين أولئك العائدين.
وليست عائلتي وحدها من تتذكّر أسراها ومفقوديها وموتاها. أكثر المعارك قسوة وضراوة يعرفها حتّى أولئك الذين ولدوا في نهاية التسعينيات. «نهر جاسم» الحدوي في محافظة البصرة ليس قبلة للعشاق أو صيادي السمك، بل هو نهر من دم وفواجع، إذ ارتبط بأشرس المعارك. تتردّد أسماء كثيرة لجنود مفقودين في تلك المعارك. كان عمّي حسين أحد أولئك، كلّمتني جدّتي عنه حتّى ظننت أنه شخصيّة روائية مضخّمة. عاشق ووسيم وشاعر وعازف وشجاع، لكن الخدمة الإلزامية دفعته الى الجبهة، كما أقرانه، لتحيله إلى عداد المفقودين.
جيء بجثّة حسين بعد فقدانه، إلا أن والدي وجدّتي رفضا تسلّمها: لم تكن له! كان شخص إيراني يحاول أن يُدفن في النجف، إذ اُشيع في تلك الفترة أن الجنود الإيرانيين يستولون على وثائق الأسرى من الجنود العراقيين، في محاولة منهم لضمان دفنهم، في حال موتهم، في مقبرة وادي السلام، أكبر مقبرة في العالم والتي تقع إلى جوار مرقد الإمام علي بن ابي طالب.
خلّفت تلك الحرب آثاراً اجتماعية كبيرة، وظفها الأدب والمسرح العراقي في مئات من القصص والروايات والقصائد والمسرحيات. كانت جدّتي، رغم حزنها على حسين، سعيدة بعدم تزويجه بسنٍّ مبكّرة. إحدى تلك الحكايات كانت ذات جذر عشائري، إذ انتشرت ظاهرة تزويج أرملة الشهيد إلى أخيه للحفاظ على أولاده ومكتسباتهم المادية كالدار والسيارة الممنوحتين من الدولة ثمناً لدمه. كان خبر استشهاد الأخ كافياً ليحلّ أخوه محلّه في غرفة نومه، وليتقمَّص شخصيته. مشهد يبدو جاهلياً، لكنه وارد بشدّة آنذاك.
بعد سنوات سيتضح أن بعض هؤلاء الشهداء كانوا أسرى، وحين يعودون ويرون ما حلّ بزوجاتهم تختلف ردات فعل كل منهم. بعض الأسرى جُنَّ، وبعضهم تقاتل مع أخوته بالبنادق لينجو من حرب أخرى أو يموت فيها، وبعضهم الآخر هرب، وآخرون تناسَوا وعاشوا هموماً جديدة. لكن حسين لم يعُد.
حرب الأسرى
هي الحرب، أينما حلّت حلّ معها الدمار، فكيف بحرب استمرّت ثماني سنوات متواصلة ضاربة عُرض الحائط بأكثر من 30 مبادرة لوقفها. السلاح يصل من كل الدول، والبشر حطبها الذي يشتعل من دون أن يلم أحد رماده، فليس للحرب العراقية الإيرانية إحصاءات موثوقة. حكومة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين التي خاضت الحرب بالإنابة عن دول الخليج حينذاك، لم تكن تهتم إلا بالبطولات والخطابات الرنانة، ولم يكن القتلى إلا وقوداً لإدامة الحرب، والأسرى مفخرة للنظام لأنَّهم «ضحّوا بأنفسهم للدفاع عن شرف الوطن». أما إيران، فكانت هي الأخرى مزهوّة بثورتها، وبنظامها الإسلامي الجديد، فلم تكن تعلن عن خسائرها، مكتفية بإعلان انتصاراتها المتكرّرة.من الجانب العراقي، ووفق إحصاءات متضاربة، فُقد قرابة مليون قتيل، فيما وقع نحو 75 إلى 85 ألفاً أسرى بيد القوات الإيرانية (بحسب المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية). أُعيد من هؤلاء حوالي 36 ألف أسير في العام 1990، لكن دخول صدام حسين في حرب جديدة أوقف ملف تبادل الأسرى...
وبعد احتلال بغداد في نيسان/ابريل العام 2003، بدأت إيران مجدداً بإرسال الأسرى الذين تبقّوا لديها. وحسب الإحصاءات الرسميّة عاد حتّى العام 2012 نحو 8467 أسيراً، أرسلوا على دفعات. لم يعرف أحد ما جدوى الحفاظ على هؤلاء في السجون الإيرانية حتّى بعد أن حلّ في بلاد الرافدين نظام موالٍ لطهران. وفي العام ذاته، أكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنه لم يعد هناك أسرى عراقيون في إيران، وأغلقت الملف. لكن في هذا الوقت، كان رئيس بعثة المنظمة نفسها يؤكد وجود 220 أسيراً في إيران، ما جعل الأمر ملتبساً. وفي نهاية العام 2013، كشفت لجنة حقوق الإنسان البرلمانية عن وجود 400 أسير لم تسلّمهم إيران إلى العراق. زاد هذا التصريح الأمل لدى أهالي المفقودين في الحرب، الذين يبلغ عددهم نحو 52785، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء.
التوّابون!
وإذا كانت الحرب قد ألقت بظلالها على المجتمع العراقي في الداخل، فإن الأسرى كانوا أيضاً يشكّلون نواة مجتمع في مكان أسرهم، فبعض هؤلاء كان قد تحوّل قيادياً في الأحزاب العراقية التي تشكلت في إيران لمعارضة نظام صدام حسين وعاد ليحلّ في مناصب رفيعة في حكومة ما بعد الاحتلال الأميركي. سمّي هؤلاء بـ«التوابين». بعضهم تسلّل إلى جنوب العراق قبيل سقوط النظام، ويقدّر عدد هؤلاء بنحو 1606 أشخاص. أما بعد سقوط النظام بشكل كامل، فعاد نحو 5922 شخصاً، وكان أغلب هؤلاء متزوجاً من نساء إيرانيات، وجاءوا معهن ومع أولادهم، ووجدوا الزوجات اللواتي تركوهن يانعات وقد غزاهنّ الشيب. إنها مفارقات الحرب مرّة أخرى. منهنّ مَن رضي البقاء على ضرَّة إيرانية، ومنهنّ من اكتفين بالالتفات إلى أولادهن وأحفادهن.
بانتظار الأسرى
منذ أوّل اصال أجريته تأكّدت بأن خبر عودة الأسرى كاذب، فجميع المعطيات تشير إلى بطلانه، لكن الفرحة التي بلغت عمّاتي ووالدي كان لا بدّ أن تدوم قليلاً، وأن يضيعوا في بحر الأمل الذي جذَّفوا فيه بقوّة، إلا أني حينما رأيتهم يذهبون بعيداً، سحبتهم إلى جرف الحقيقة وأخبرتهم أن الأمر كذبة، لكنهم ظلّوا على أمل.«إن كان الخبر صحيحاً أو محض كذبة، فإنه فتح لنا باباً لنأمل عودة أولادنا»، كان هذا ردّ سيّدة على صفحة «فايسبوك» بشأن الخبر الكاذب عن عودة الأسرى، وكذلك كان ردّ عمّتي: «لا يوجد دخان من دون نار». والحكومة مستمرّة بالوعود في البحث عن أسرى آخرين لدى إيران، والأهالي في الانتظار، فهل يعودون؟