عن قديم الزمان يحكون، أنه بيوم يشبه غيره من الأيام تولًدت عزيمة جديدة بصدر أحد الشبان، فحمل أهله، وتبع سره، إلى أن وصل حدود النهر، هناك حل شغفه، ولمع سنه، فأطلق من بين طياته صيحة رد صداها سلسال الجبال الممتد. قالت له إمرأته: "لم يرد الصد الصدى لعلًوه الذي لا نعرف ما خلفه، ولكن لضيق المسافة بينه وبين هذا الشق الجميل الغامض الذي لا نعرف حدود جوفه".
فرد عليها قائلاً: "لا تخافي، إنها بلاد طيبة".
(1)
كان الجبل أسمر طيني، والنهر أزرق سماوي، شعر المرأة طويل مجعد، وعيون الشاب سابلة بُنية، وبعد أيام ليست طويلة، عصية، رسم الكون بإيديهم في المساحة الضيقة لون متعرج أخضر، أطلقت عليه الأسرة الرائدة إسم "الوادي" ثم تحلقًت على أطرافه الذئاب وارتسمت فوقه الدوائر البشرية.
وهكذا عاشت الأرض وعاشت معها الأسامي، صبيان وبنات ونجوع وكفور، وأصبح للبلاد عنوان ساري، نهر لم يتوقف عن الفيضان والبوح، وأهل لم يتوقفوا عن السعي والعبادة.
ولكن - وكما تعرف - لا يمكن للصور أن تحتفظ دهراً بالألوان الأساسية، إنها ديمومة الأيام، ولقد ظهرت سريعاً نتائج إختلاط الألوان، فالبرتقالي لم يكن فقط فاكهة زاهية ولكنه أثر احتراق الوجوه تحت أشعة الشمس القاسية عند جني الحصاد بالحقول أوالكرامة بالسجون.
والبنفسجي ليس حكراً على الوردة الحزينة لكنه أثر الدماء الحمراء التي أريقت فوق المياه الزرقاء بليالٍ بعيدة قريبة، حين قتل "ست" الملك أوزوريس" بالعام الرابع والعشرين قبل الميلاد وحين فتح عساكر الولس الإنجليزي النار على التلميذ "عبد الحكم" ورفاقه فوق كوبري "عباس" بالعام الألف وتسعمئة وستة وأربعين بعد الميلاد.
أما الميلاد فهو ميلاد "المسيح" رمز التطهر والفداء والسعي حافياً نحو الملكوت، وعلى الرغم من هذا لا زال الآخرون الكاذبون من قبل ميلاده بقرون، ومن بعد إرتقائه للسماء بقرون وهم يسعون لصلبه، ولا يتوقفون.
من هم؟ إنهم سوء جوف الأرض، ديدانها، زبانية الظلام، "دولة الغيلان" على امتداد الأعوام.
(2)
حين سمع كلماتي تلك، على غير عادته، أجهش "الأمل" في البكاء، كان واقفاً وحيداً في الساحة الشاسعة التي فرغت إلا من الجسد المعلق فوق الشجرة المزوية. اقترب الأمل وقبّل الرأس التي جُذت لأنها رفضت أن تنحني حية، وقال: "لا تفكروا في عالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد، وكلمات تذهب سُدى".
دُفنت جثة الشاب وبقت روحه لم تَشٍف، أفضى الأمل بكلماته ولكنها إلى اليوم لم تجف، فلا زال السجال مستمراً، يخبو ويغيب ثم يزهو ويفيض كل ثلاثين أو خمسين عام. إنها "سمة الشخصية" كما عبر عنها أحد أبناء هذه الأرض القادم من سلسال الشاب الأول، واسمه "جمال". كتب ما لديه وخبت جثته هو الأخر وسط جدال، كانت هذه المرة محروقة، إثر حادث غامض في شقة صغيرة يتحكم في مسارها كملايين غيرها، "دولة الظلم" ذاتها ويجثم فوق عرشها رجل يدعونه هذه المرة برئيس الجمهورية.
لم يغير "الوادي" اسمه ولكن بهت لونه، تكاثرت فوقه الدوائر البشرية فأصبحت بالألفية الثالثة تضم من الأنفاس 97 مليوناً، يذهبون ويجيئون، يرزحون تحت الهم، يضعون فوق رؤسهم العمائم ويخبئون داخل قلوبهم الغمائم حيث تعافر الرغبة في "الارتضاء" قسوة "الحاجة" التي تعصف بالأرجاء.
ودائما ما تكون قاسية نزلتهم الأولى للمدينة، من أجل نصيحة أو شربة دواء تسكن الأوجاع الأليمة، بحثاً عن فرصة للسفر وإن كانت غير كريمة، أو لتمهيد طريق يزيح عنهم يوميات الموت، من أجل المطالبة الجماعية برفع سعر بيع القطن لشراء احتياجاتهم من سوق السبت.
أحياء كانوا كرماء، يَصِلون إلى حافة الاستجداء، ينحنون أمام البلاء.
(3)
أمام أبواب الحاكم وأتباعه في الدواوين الكئبية، لا زال يجتمع أهل الريف والعمارات، يقولون لبعضهم البعض وهم وقوف فى الطوابير الممتدة أمام المخابز ومصرف المعاشات، الشر فينا، تحولنا لكتلة بؤس، اختفت بيننا النخوة، لم يعد هناك مقاماً لخال أو عم، كم بيننا من مرتشي وفاسد، كم بيننا من ساكت عن الحق بل وقد يُدَلس لصالح الأقوياء.
ويرد على بعضهم البعض: "لقد زاد الفقر ففسد الطبع، ولسنا واحد بل أغلبنا "رحماء"، يفرحنا القليل، نصبر على الأنين، ولو جاءنا جدع من بيننا وقفنا خلفه، نجمع حفنة الدقيق وقليل القرش، ننزع قضبان قطار الموت ونهز بنكاتنا العرش، ولكن إن طال الجوع والبطش نضعف ونخاف".. ثم تجتمع الأصوات لتردد في شبه جوقة اعتادت الترتيل: "إحنا غلابة".
(4)
وهكذا تطورت سيرة "البلاد الطيبة"، وتوازت معها تراكمات "دولة الظلم" فكان الحصاد الذي سيبقى دوماً يستحق ألف عين وألف قراءة، حيث..
- 97 مليون يعيشون في بلد فتيّة ثلثها دون الـ15 في السن و4 في المئة فقط فوق الستين، يعمل 9 ملايين منهم داخل الحقول، و5 ملايين على طرح البحر، وفي الدواوين الكئيبة يعيش على الكفاف 5 ملايين دون آلية حقيقية للفرز والانصاف والتطوير، وبين هؤلاء وهؤلاء تسعى ملايين أخرى وراء لقمة العيش بكافة الأشكال، ليصل حجم قوة العمل الرسمية إلى 29 مليوناً، أما نسبة البطالة الرسمية فلا تزيد عن 11 في المئة.
- فوق طين الأرض الطيبة التي يصل إجمالي مساحتها الى مليون كلم مربع أي 238 مليون فدان ينحني "عيدان القمح"، الفلاحون فتبسق 10 ملايين نخلة، وتورق مليار ونصف زهرة قطن (150 ألف فدان سنوياً) ومليارات السنابل (10 ملايين طن قمح سنوياً) وذلك فوق مساحة زهيدة حيث لا يمثل الوادي ودلتاه إلا 16 مليون فدان منها. وللعجب فهو الرقم نفسه الذي حصدته فؤوس الفهلوة والشطارة، أي إجمالي ما تمّ رصده من الأراضي المنهوبة على أيادي من تمت تسميتهم زيفاً برجال الأعمال.
- في البلاد الطيبة يعاني 10 في المئة من أبنائها من الإعاقات الجسدية نتيجة سوء التغذبة والحوادث، ويصل عدد من لا زال لديهم طاقة للتطوع واستيعاب الغير إلى نصف مليون شابة وشاب.
- جميع من سبق يسعون رغم أن ما يزيد عن 22 مليوناً حُرموا من حقهم في التعليم أو يتسربون منه في ظل نظام تعليم عجائبي يشمل ضمن ما يشمل ما يزيد عن 250 ألف فصل دراسي يزيد عدد الطلبة داخل الواحد منها على الثمانين، ثم يبحث المسئول عن مخرج فينادي بإلغاء مجانية التعليم.
- تشارك النساء منهم في تحقيق معدلات العمل والتعليم والشقاء بينما تلاقي كثيرات منهن المصير الأصعب، فيرحل عنهن رجالهن تحت وطأة الفقر لتجد ما يزيد عن 600 ألف "أم" نفسها مسئولة - دون مؤهلات غالباً - عن إدارة كل شئون الحياة، تستفيد نصفهن فقط من معاش زهيد يصل إجماله إلى مليار جنيه، أي أن 300 ألف أسرة تعيش شهرياً على 600 جنيه بينما 300 ألف اخريات يدبرن حال أسرهن دون هذه القروش القليلة.
- وحين يعصف بكل هؤلاء المرض الشديد لا يجدون إلا 10 آلاف سرير للرعاية الصحية المركزة أو للرحيل، فيحكي الطبيب الشاب عن نظرات الوداع السريعة بين الأهل والمريض أمام غرفة العمليات ويعرفون إنها المرة الأخيرة بعد انتظارهم شهوراً من أجل إتاحة سرير، أما في المشافي ذات الأضواء اللامعة فسعر الليلة الواحدة يصل إلى 5 آلاف جنيه أي أكثر من 3 أضعاف الحد الأدنى الشهري للأجور الذي ارتضته دولة الظلم لهذه الجموع.
- في رحلات الإياب والذهاب من وإلى المدينة، غالباً ما يستقلون القطارات المتهالكة، قرابة المليون ونصف من الصباح للمساء يتوزعون على 3500 عربة قطار تشمل 850 عربة مكيفة يظفر بها 4500 مواطن فقط من أصل المليون ونصف، حيث سعة العربة الواحدة من المفترض ألا تزيد عن 52 راكب بينما تتراكم الأجساد البشرية فوق بعضها البعض في عربات الموت. لذا لم يكن من الغريب أن يحصد الموت 350 روحاً في لحظة واحدة إثر احتراق عربتين بقطار الصعيد في العيد، بينما معدل الموت السنوي فوق القضبان يصل إلى 60 إنسان.
- 500 ألف هو المعدل السنوي لعدد الوفيات، بينهم 80 ألفاً في الحرائق وضعفهم بالحوادث على الطريق العام، اما ما يقارب الـ 280 ألفاً (63 في المئة من عدد الوفيات) فتزهق أرواحهم نتيجة الأمراض المزمنة المتوطنة، ضغط عالي وسكري وقلوب متأزمة وأكباد متهالكة وكُلى توقفت عن العمل. أما المرضى ممن نالت منهم خبائث الورم، فيقارب عددهم نصف مليون (40 من كل 100 ألف) عند متوسط عمر 45 عاماً، وعدد الوفيات منهم سنوياً لا يقل عن 20 في المئة.
- ليس هذا فقط، فكثير من الأرقام تلقى الاذى على جنبات الطريق. فحصاد سياسات الدولة الظالمة أدى الى تمركز هذا الشعب في المرتبة الأخيرة دولياً بالتعليم ومعدلات الابتكار (وفق التصريحات الأخيرة لوزير التعليم)، ومن بين 138 دولة احتلت المرتبة 100 على مستوى التنافسية وال111 على مستوى الابتكار وال89 في الصحة وال96 في تحقق المتطلبات الأساسية من البينة التحتية، والـ 112 في كفاءة سوق السلع، والـ 111 في تطور الأسواق المالية.
- أما عن الشبح الأكبر، الفقر، فالأرقام عاجزة أمام الغلاء، فيبلغ عدد الأسر التي يقل دخلها السنوي عن 1000 جنيه أكثر من 1.2 مليون أسرة، تمثل حوالي 10 ملايين مواطن أي أن 27 في المئة من الشعب مرسوم في صفحة ألوان العالم تحت خط الفقر، بينما ارتفع معدل التضخم خلال 3 أعوام من 19 إلى 30 في المئة، جميعهم يواجهون الغلاء عدا 14.7 من إجمالي الشعب أي حوالي 12 مليوناً هم أغنى فئة وينفقون أكثر من 120 ألف جنيه في العام.
(5)
وتوازياً مع ما سبق، وأكثر، من نقاطٍ تٌشَكِل على الطريق سوياً خطاً للاكتواء، تتمايل على الأرض كما الأفعى النسخات المكررة من دولة الظلم والاستقواء، فقلما شهدت هذه الأرض محاولات ناجعة لوصل طينها بخيرها، وطالما كانت محاولة قصيرة المدى، محدودة الأفق، محاطة بالأعداء، إما ينقصها اقتناص الاستقلال أو اعتناق الحرية، وعلى الرغم من ذلك نجحت في بث الروح ولو قليلاً، في الوصول لسمة الروح الأصلية فوق هذه الارض الاصيلة.
عدا هذا كان مشواراً طويلاً محموماً، حيث آخرون، يحملون جنسيتها او لا يحملون، يرمون بها كل صُبح في غيبات الجب ولا أمل في مارة ينقذونها، ولكن أملاً في إشارة تأتي من شقاق طينها وأنفاس أبنائها تخرج بها إلى النور.
ودون ادّعاء أو تجني، تنضم كاتبة السطور إلى ملايين غير محسوبة في الدفاتر الرسمية، ترى أن النسخة الحالية هي الأكثر رداءة في هذا المخاض المضني.
تدافع عن نفسها الدولة بالقلم والكرباج والتعتيم، وبنهاية العام القادم 2019 تنتهي المدة الزمنية المحددة لرؤيتها الاقتصادية التي تراها المخرج الوحيد من الخراب المقيم.
لا تُحمِّل نفسها مسئوليتها ولا تلتفت لانتقادات الحريات المذبوحة والأرواح الملقاة بالسجون، يقول رئيسها: "لو كده كده خربانة فايبقى نجرب الدواء الصعب"، لا يبالي بأصوات تحاجج وتخبره: "إنها خطة القضاء على الفقراء لا الفقر، بإزهاق أرواحهم لا القضاء على احتياجهم بقضاء حاجتهم".
حسب تقارير وتحليلات اقتصادية، فبرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي نصح به الصندوق الكبير الدولة الحالية تمّ انجاز ثلثيه وسط رضاء عالمي، تمّ تحرير سعر الصرف ورفع سعر الوقود ويد الدولة عن الخدمات، ومعها ارتفع معدل النمو من 4.3 إلى 5.3 بنهاية السنة المالية الأخيرة، وارتفع الاحتياطي الأجنبي في ظل ضخ القروض والمنح ليصل إلى 23 مليار دولار، ارتفع معدل شراء أذون وسندات الخزانة العامة، تواترت حركة رؤوس الأموال في البورصة.
وتلي الأرقام أرقام، فتشير إلى ارتفاع الديون الخارجية بنحو 58 في المئة لتبلغ 88 مليار دولار أما الدين المحلي فوصل الى 197 مليار دولار، ويصل حجم فوائد الدين سنوياً ما يقارب الـ 40في المئة من الانفاق العام.
وتعتمد الدولة في سباق الأرقام اللولبية على أن يتحرك قطاري الاستثمار والانتاج فتطرح العجلات / "العملات الأجنبية" التي تكفي لسد الديون والعجز وتغطية وزيادة الانفاق. وعلى الرغم من مرور سنوات خمس لم ترتفع الصادرات إلا زيادة طفيفة يعود أكثرها لزيادة انتاج الغاز الطبيعي (22.6 بدلا من 20.4 مليار دولار)، وبقي المصدر الأول للتمويل هو تحويلات العاملين بالخارج (26 بدلا من 17 مليار دولار) والقناة البحرية (25 مليار دولار)، وعدا القناة الجديدة التي قيل عنها أنها كانت "لرفع الروح المعنوية" لم تر البلاد انتاجها بعد.
يحدث هذا بينما ينشغل القائمون على الدولة الحالية ببناء عاصمة جديدة إدارية، وبتنظيم مؤتمرات يقولون عنها عالمية ولا تقل تكلفتها في المرة الواحدة عن 100 مليون جنيه، والحسبة بسيطة، فحين تدعو الحكومة 3000 شاب من 145 دولة إضافة الى 2000 شاب مصري، فتصبح تكلفة الاقامة والسفر للشخص الواحد 2000 دولار.
هو نذر يسير من كثير في حديث الملايين المهدرة، إضف إلى هذا حفنة من القوانين التي لا تستهدف غير الفقير، فتعصف ضمن ما تعصف بالعلاج المجاني في المستشفيات الجامعية (60 في المئة من حجم الخدمات الصحية المتاحة)، وتستهدف تسريح 2 مليون من العاملين بالقطاع الحكومي، وتتجه لا لخصخصة مصانع القطاع العام فقط ولكن لخلق هيئة خارج الرقابة المالية تسمح بالبيع والتأجير، وتتصالح مع السارقين تحت مظلة استجلاب رجال الأعمال، وتفرض الضرائب العامة المبالغ بها على العقارات والمال.
(6)
إنها قصة "بلد الغلابة ودولة الغيلان". وبين الخطين المتوازيين يتقلّب "شعب" بين ثنايا الشِباك. لكن وقبل سنوات قليلة شهدت هذه الأرض الطيبة أحداثاً جليلة، كان الشتاء جميلاً وأنبلجت "ثورة".
في ذلك اليوم، صدًقت الجموع ما كان يُروى وتَعزف عنه قبل زمن، أن الخير هو الأصل، حيث "الظلام" هو غياب النور، و"الظلم" غياب العدالة. لكنه سريعاً أيضاً ما طفت "العكارة". لم يتمكن "عيدان القمح" في الميادين من تقليب طين الأرض مرة ثانية وثالثة ليخرجوا ديدانها ويسمحوا لضي الشمس بالتطهير.
لم يحدث "التغيير"، نعم كانت أعلى انبثاقات المحاولات الجادة لدولة صحيحة حيث اقتناص الاستقلال وإرساء العدالة واعتناق الحرية، وكان أجمل ما فيها أنها بيد ذويها، وعلى الرغم من هذا خبت جذوتها سريعاً، وعادت الحشائش المميتة للتسلق، ومجاميع عريضة للانسياق.
لم تدرك "مصر" يا سادة لحظة "الانعتاق"..
(7)
عاد "الشاب الأول" ذات ليل ودار في "البلدة الطيبة" حتى وصل حدود الشجرة المزوية وهناك وجد "الأمل" مكنفئاً كما النائم، فناداه بصوت غائم، وأخبره كمحاولة بأس أخيرة أن يتحرك دون أن يخاف على رقبته بين الناس، أن يجري عاريا أو يرتدي وشاحاً أخضراً أو سترة صفراء، أن يحكي لهم عن تجارب قريبة بعيدة حيث الثوار مشاريع ممثلين للشعب لا شهداء.
أن يخبر أحفاده الشباب اليائسين، أرباب الميادين والزنازين أنه ليس صحيحاً "لا زال هناك فرصة أخيرة"، بل "دائماً هناك فرصة مديدة" لمن يسعون ولا يكتفون بتشكيل عباءة الأمل تدثراً او نفوراً، وأن هذا الحجم من الانغماس بـ"الألم" والاكتواء بـ"الذنب" لا يستقيم معه - إذا ما أرادوا - إلا "فيض" عظيم.
ومرر له رقم أخير، قال: قل "خمس وثلاثون"، 35 مليوناً هو عدد المقاطعين لصناديق الانتخاب على مدار السنين، كانوا دوماً غائبين حتى بلحظة الوهج الكبرى التي ضاعت على الرغم من اختيار من حضروا من الغلابة الغالبين للراحمين (9 ملايين هو عدد الأصوات التي ذهبت لممثلي "25 يناير" بانتخابات 2010 وتفوقت إجمالاً رغم تشتتها على أرقام المنافسين). قل لهم: "أين أنتم منهم؟ كيف ستصلون إليهم؟ ولمن سبقهم؟ كيف يمكن أن تترجموا لهم أحلامكم؟ ومتى تنهون - وأنتم الآن صوتي - صمتكم الطويل؟
...
عاد إلى غفوه الشاب الأول، ولم يحرك الأمل ساكناً بعد، استمع ولم يرد، بينما هذا الطفل السمين العجيب وحده في الليل البارد، بليلة رأس العام، يغني ويدور كما المجانين، ينادونه "جاهين"، يحمل في يده طبلة معطوبة ويغطي جسمه بملابس مزركشة مزرية، وعلى الرغم من هذا كان سعيداً فرحاً يفتح ذراعيه على آخرها، يغني ودموعه كما المطر فيضان: "وانا لسه ماشي في وسط الناس متباهي بوطني فرحان.. بالأحضان".
* تعود مصادر كل الأرقام المذكورة في النص إلى "مركز التعبئة والإحصاء"، والبنك المركزي في مصر، ومقالات اقتصادية.