"...بعد خراب البصرة" هو مثلٌ كناية عن حدث يقع بعد انتفاء الحاجة إليه. وقد عَمّ المثل بعد أن أُحرقت البصرة اخصاصاً وبيوتا وحارات، عشية سيطرة الزنج وصاحبهم علي بن محمد عليها (255 ـ 270هـ)، فكان هذا خرابها الأكبر، بعد خرابين مرا بها. حَكمها الزنج نحو عشرين عاماً، وفشلت محاولات الخليفة العباسي المعتمد احمد بن المتوكل باستعادتها، إثر حملات تصطدم بمانع القوة وطبيعة الأرض، حتى استرجعها متأخراً خرِبة مدمرة، فذهب المثل بين الناس انه «نصر بعد خراب البصرة»، ومنها سميت ايضاً بـ«الخَرِبة».
لكن فاصل القرون بين الحادثة التي أسست المثل واليوم، لم يُلغِ الخراب. فالبصريون يتفقون أن مدينتهم لم تكن هكذا، ويصرّون على أن البصرة، التي تقع في أقصى جنوب العراق، ليست بخير، فهي مُستغلّة ومهمشة من قبل الحكومة المركزية في بغداد، مع أن معظم وارادات العراق المالية تأتي من حقولها النفطية، بينما لا يحصل أبناءها إلا على المزيد من الدمار والتلوث والسرطانات، إذ لا يوجد في البصرة حركة إعمار حقيقية، ومعدّلات الفقر فيها متصاعدة، والخدمات متدنيّة، فضلاً عن أنها لم تعد مركزاً اقتصادياً كما كانت، بالرغم من كونها تقع على حدود العراق مع ثلاث دول هي إيران والكويت والسعودية، وتعتبر المنفذ البحري الوحيد في العراق عبر موانئها الخمس.
الرحلة الأولى
«اذهب إلى شارع الوطن»، أوصاني والدي عام 2011 وأنا أقوم بأوّل زيارة للبصرة. وهو زار الشارع الذي يتوسط المدينة حينما كان يغصّ بالسياح، وبالنوادِ الليلية والمطاعم الفارهة. «شارع لا ينام» أخبرني. لكني لم أجد أياً من هذا حين وصلت الى الفندق الذي سكنته هناك. سألت البصريين عنه، فقالوا هو ذاته: ثمّة فاصل بين زمنين، فهو شارع مهجور يغط في الظلام، محلاته مغلقة، والكلاب تصول وتجول على أضلاعه، وكأن نباحها شهادة على خوائه.
ومن يتجوّل في شوارع البصرة يعرف أن القمامة أمر ملازم لها، تبحث الحكومة المحليّة عن شركة لرفعها من الشوارع بعد أن فشلت البلدية في الأمر، وقد اتفقت أخيراً مع شركة كويتية لرفعها من المركز (فقط) لمدة ثلاث سنوات بعقد بلغت قيمته نحو 200 مليون دولار. لكن يبدو أن هذا الاتفاق أيضاً فيه شبهات فساد، فحتّى أكثر المناطق رفاهاً تغصّ بأكياس القمامة السوداء التي عبثت بها القطط والكلاب.
حسناً، سأنفذ الوصيّة الثانية، وهي التنعم بأكل السمك، رخيص الثمن وذو مذاق خاص يميزه عن سمك بقية المناطق العراقية . إلا أن المفارقة هذه المرّة هي ببيع الأسماك بسعر مضاعف عمّا هو موجود في العاصمة: «هذا سمك بغداد»، قال البائع. مهنة صيد السمك أيضاً انحسرت نتيجة ارتفاع اللسان المِلحي في شطّ العرب، ولم يتبقّ سوى المئات من الصيادين في المحافظة من أصل 30 ألف كانوا يمارسون المهنة المتوارَثة، ولم يتبقّ أيضاً سوى 400 زورق صيد من أصل 1500، بعد أن تعرّض الصيادون إلى عدّة اعتقالات من خفر السواحل الإيرانية والكويتية، وفقاً لجمعيّة الصيادين.
وبالعودة إلى «شارع الوطن» القريب من كورنيش شطّ العرب، فهو بلا ليل، لأنه في عام 2009 فُجِّرت فيه أكثر من 7 محلات لبيع المشروبات الكحولية. والأحزاب التي توالت على إدارة البصرة لم تعد تسمح بالحياة الليلية، وتقف بالضد من الحانات والخمر. ومن أجل هذا شرّع مجلس محافظة البصرة قانوناً يغرّم بموجبه كل شخص يصنع أو يبيع أو يشرب الكحول في مكان عام أو يستورده، بمبلغ 4700 دولار، أو يسجن 6 أشهر.
الخمر وحده لا يلغي الليل، لكن في البصرة العوائل لا تستطيع التنزه، كما كانت، على كورنيش شطّ العرب بسبب استغلال المراهقين له لعدم وجود أماكن ترفيهيّة أُخرى. السياحة غادرت المدينة بعد أن كانت مزاراً لعوائل دول الخليج العربي وكذلك لسكان العراق. ذهب جوّ المدينة المعتدل في الشتاء، فيما تحول شطّها إلى مجرد ديكور باهت لا طائل منه.
إلا أن انعدام السياحة لا يحدّ من بناء الفنادق، فهي مشروع مربح لتجّار الصدفة الذين أنتجتهم أحزاب ما بعد 2003. هذه البنايات الفارهة التي تتناطح على ضفاف شطّ العرب ستكون مناماً لموظّفي شركات النفط الأجنبيّة، هؤلاء يسكنون هنا بأسعار تتجاوز 600 دولار لليلة الواحدة، ومن الممكن أن يقوموا بتأجير غرف لطواقمهم لمدّد تمتد أحياناً لأشهر. سأسمع عن أسماء محدّدة تقوم بهذه الأعمال، وستلحقها تبعيّتها لهذا الحزب أو ذاك، فأهل البصرة أعرف بسرَّاق مدينتهم.
العائلة والعشيرة
بقيت البصرة حاضرة مدنيّة بالرغم من القصف الذي دمّر بنيتها التحتيّة إبان الحرب العراقيّة الإيرانية، تبعتها الحرب المهولة التي شنها التحالف الدولي لإخراج القوات العراقية من الكويت، ومن ثم الانتفاضة التي قام بها سكان الجنوب ضد نظام صدام حسين عام 1991 والتي انطلقت شرارتها من ساحة سعد الواقعة في قلب البصرة. حتّى ذلك الوقت كان صوت «المؤسسة العشائرية» منخفضاً، إلا أنه تصاعد بعد منتصف التسعينيات، حين ضعفت الدولة، وشجّع نظام البعث شيوخ العشائر على تطبيق سننهم العشائرية مقابل إبداء الولاء له. ولا ينتمي أغلب سكّان البصرة إلى العشائر وإنما إلى العوائل، وقد نزح إليها المطلوبين عشائرياً من محافظات الجنوب الأخرى، بالإضافة إلى العاطلين عن العمل بسبب توقّف الزراعة في ظلِّ الحصار، حتّى تشكّل مجتمع بدوي - ريفي طغى على المجتمع الحضري. وقد يكون غياب أسماء العائلات البصرية الأصلية وحلول الألقاب العشائرية محلّها من أهم سمات التلاشي المدني.
إثر ذلك، ارتفع عدد سكّان البصرة خلال عقدين من 600 ألف إلى حوالي 3 ملايين نسمة، فخلّف هذا النمو السكاني السريع والمتصاعد آثاره السلبيّة، إذ تحتفظ البصرة لنفسها بنسبة 14 في المئة من السكن العشوائي الموجود في العراق، وهي تحلُّ ثانية بعد بغداد، لا سيما أن أسعار الأراضي والمنازل فيها تعتبر الأغلى في عموم العراق، بعد أن عجزت الحكومات المحلية عن إيجاد مخطّط لتوسعة المدينة. والاكتظاظ له منافعه ومثالبه، فللبصرة 35 نائباً في مجلس النواب العراقي بسبب عدد نفوسها، لكن في الوقت ذاته ارتفعت نسبة الفقر من 3.3 في المئة عام 2007 إلى 16.1 عام 2011، وتبلغ نسبة البطالة فيها حوالي 15.4 في المئة من مجمـوع سكان المحافظة. وهذا بالإضافة إلى أنواع متعددة من مرض السرطان تستشري في أجساد البصريين بسبب اليورانيوم الذي استعملته القوات الأميركية في حربي «عاصفة الصحراء» و«تحرير بغداد» (تحذر الهيئة الدولية للبيئة والطاقة في «الأكاديمية الملكية الدولية» بأن نصف سكان البصرة سيصابون بأمراض سرطانية في حدود عام 2020). وهناك أكثر من 300 ألف طفل في البصرة يعانون من الحرمان بجميع أنواعه، وفقاً لليونسيف.
عشاق تحت الباذنجانة
المدينة التي تلاقحت ثقافياً مع من حملته البحار إليها، لتصير إحدى المحافظات الأكثر انفتاحاً في البلاد، سكت فيها صوت إيقاع الطبول السريع المرافق لرقصة «الهيوه»، الذي تختص به المدينة، والموروث من ايام ثورة الزنج، ولبست المدينة السواد كاملاً.
لكن البصرة التي استدرجت فيها واحدة من أشد الحركات الإسلامية تطرّفاً الحزب الشيوعي ليدخل معها في تحالف أثناء انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في العام الماضي، ما زال فيها شبّان يُصارعون من أجل استعادة هويتها المدنيّة. ففي منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أسس شبّان مبادرة «جسر الحب» عبر تقليدهم لجسور الحب المتوزّعة في فرنسا، وحصلوا على الموافقات من الحكومة المحليّة، ووضعوا الأقفال التي كتبوا عليها اسمائهم وأسماء حبيباتهم على الجسر ورموا المفاتيح إلى النهر. إلا أن أقفالهم أيضاً أخذت طريقها إلى القاع بعد أن قام متشددون بخلعها، وقالت ميليشيا متنفذّة عن المبادرة أنها ترمي إلى الضلالة، ووصفتها بأنها «بدعة».
كانت هذه المبادرة بمثابة جرس الإنذار للأحزاب المتشدّدّة، فقد تحدّت شابات القيود الموضوعة على النساء في البصرة، ووضعن الأقفال كما فعل الشبّان. أُهمل الجسر، وغفت الأقفال في قيعان الماء، لكن الشبّان سرعان ما وجدوا مكاناً آخر لحريّتهم، فجلسوا تحت «نصب الحريّة» الذي افتتح مؤخراً، وهو صنع بطريقة ساذجة ومتخلّفة فصار شكله يشبه الباذنجانة. في هذه الساحة يجلس الشبّان والشابات إلى جانب بعضهم، بعد أن قامت الحكومة المحليّة بقصِّ الأشجار الكبيرة في الجامعات خشية من «خلوة» الطلبة والطالبات. شهدت «الباذنجانة» مبادرات مدنيّة لمساعدة المكفوفين، وتشجيع الأطفال على فنون الرسم والموسيقى. ويعتقد الكثير منهم أن التمثال مشوّه، لكنهم يقولون ان لا مكان لهم غيره. البصريون رضوا بالقليل من أجل ممارسة حياة طبيعية، يجد المرء في هذا المكان نساء بلا حجاب.
البصرة.. مشروع إقليم؟
سوء حال البصرة يدفع بعض سكّانها إلى الشعور بأن استقلالها، ليس كإقليم فحسب وإنما كدولة، سيجنّبها كل هذا الخراب، وسيُعيد إليها مجدها كونها أولى الحواضر في العراق (إذا ما أُستثنينا حضارتي بابل وسومر عن هذه المفاضلة). فحواضر العراق كانت البصرة والكوفة فحسب، قبل أن تكون بغداد التي أسسها الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور عام 146 للهجرة.
المدينة التي ترزح تحت هذا الركام، تتسلّم موازنة سنويّة جبارة، فايراداتها من برنامج البترودولار (5 دولارات عن كل برميل نفط خام مستخرج من ارضها) تفوق موازنة مملكة الأردن لمرّتين أو ثلاث، ويديرها مسؤولون من الأحزاب نفسها التي تدير الحكومة المركزيّة، وهؤلاء يعملون على إبقاء البصرة على حالها وإبعادها عن دائرة المركز.
ونظرة على حجم الفساد والخراب الذي أصاب المركز نتيجة فساد حكوماته المتعاقبة، ستجيب عن التساؤلات التي تتوالد عن أسباب الفساد والخراب في البصرة. والحل ليس في تحويل البصرة الى إقليم كما يطالب بعض نواب ومثقفي المدينة، وليس بانفصالها عن العراق كما يطالب البعض الآخر، بل باستعادة المدينة من براثن الفاسدين وإزاحة الغبار عن وجهها المدني الذي تآكل بسبب الأفكار والممارسات التي لا تقيم لتاريخ المدن وزناً.