بدا العراقيون لحظة نيسان / أبريل عام 2003 في العراق، حين أسقطت دبابات الاحتلال الأميركي تمثال صدام حسين وسط بغداد، وكأنهم أمام لوحة "بازل" كبيرة بعد أن تهدّمت لوحة "الحزب الواحد" الذي ما فتئ يضيف القطعة تلو الأخرى لبازل البطش. لم يلقَ أهل بلاد ما بين النهرين حينها سوى قطع متناثرة لا تصلح لتكوين مشهد مكين لمستقبلهم "الجديد" التالي لدولة البعث. وفيما كان العالم يتفرج على مشاهد لعراقيين يحرقون مؤسساتهم ويسرق المعدمون منهم الأثاث منها وما تبقّى من مال في المصارف، كان هناك آخرون (لم تذهب إليهم العدسات ولم ترصدهم) تتملكهم حيرة كبيرة. وجوم كبير وقلق يتعاظم سادا شرفات أطلّ منها العراقيون على مستقبلهم، كان قد نجح فيلم "بشأن بغداد" للروائي العراقي سنان انطون ومجموعة من زملائه بتسجيلها، ممسكين بنبض شارع استفاق حائراً على واقع جديد. من وسط الركام القديم والخراب الجديد، بدا العراقيون ممسكين بفتات من لوحة بلدهم: بعضها ملون بسعادة سقوط صدام حسين، وبعضها ممسوح بالقلق مما تضمره الولايات المتحدّة الأميركيّة من نيات.
قطعة الديموقراطية وقطع الفساد
كان الاحتلال الذي جاء رافعاً راية "التحرير" قد أعدّ مسبقاً قطعاً لملء الفراغات في البازل العراقي المنقوص، تحمل عناوين براقّة تنضوي تحت حتميّة الديموقراطية. من صناديق الاقتراع والوعود بالتمثيل الكُليّ للطوائف في الحكومة والبرلمان مروراً بخلق صور المسؤول الموظّف والمواطن المُدلل إلى دولة الرفاه من المال والسيارات والمنازل والسفر للسياحة في دول العالم بالجواز العراقي. كانت قطعة البازل هذه تُزجُّ عنوة إلى جانب قطع دموية وفضائحية معدومة الأخلاق: فضيحة سجن أبو غريب، وهدم الفلوجة فوق رؤوس ساكنيها، والقتلى من العراقيين على يد القوّات الأميركية في الشوارع (قتل في الشهر الذي اجتاحت فيه القوات الأميركية بغداد 3977 مواطناً عراقياً مدنياً)، وانتشار الميليشيات وصعود تنظيم "القاعدة". وأمام مشاهد متنافرة، تراكمت وعود تحثّ على الصبر حاذفة المشاهد السيئة من لوحة المستقبل، فيما تجند رهط من الكتبة العراقيين لتثبيت أن لا ديموقراطية إلا وتمر بطريق الآلام لتصل في نهاية المطاف إلى التكامل في هيكل دولة موحدة راسخة.
وبموجب منطق الغاية تبرر الوسيلة، مهّد الاحتلال لـ "الدولة العراقية" لأن تقام على أعمدة فساد متضخم وبيروقراطية معقدة وغير ناجعة. كان أبرز هذه الوسائل هو صعود آلية عمل المقاولات التي تُسلّم من القوّات الأميركية للمقاولين المحليين لإنجاز مشاريع بناء أرصفة ومدارس وقواعد وسجون وما إلى ذلك، إذ ما أن يسلم المسؤولون الأميركيون المقاولة إلى شركة كبيرة حتى تسلّمها هذه إلى واحدة أصغر منها والأخرى تسلّمها إلى أصغر، حتّى تصل إلى عامل صغير نسبة 2 في المئة من الأموال التي تلقّتها الشركة الأولى ليقوم بتنفيذ المشروع الكبير بمواصفات سخيفة، هذا إذا ما نفّذ المشروع بالأساس. ومن أجل تنفيذ هذه المشاريع خصّصت الإدارة الأميركية نحو 60 مليار دولار، "ضاعت" أموالها بين قبائل الشركات، وأقرّ المفتش الأميركي بأن 40 في المئة من هذه المشاريع عانى "أوجه خلل كبرى"، هو، وفقاً للتلطيف الأميركي، لا يُعادل في لغة الواقع أكثر من فساد يتمّ التحقيق فيه حتى الآن من قبل الحكومات الأميركية المتعاقبة. وهو تحوّل إلى منظومة متكاملة لإدارة البلاد، لا سيما بعدما تصدّر العراق المراتب الأولى بالفساد في سلّم منظمة الشفافية الدولية منذ عام 2005 وحتّى الآن.
وقد وصل التغاضي والتواطؤ الأميركي مع مشروع حقن الفساد في جسد العراق أَوْجَهُ في العام 2007 في الصراع ما بين النائب الديموقراطي في مجلس النواب الأميركي هنري واكسمان والرئيس الأميركي جورج بوش، إذ أخذ واكسمان يدقّق ويبحث في ملفات فساد في التعاقد مع شركات أثناء غزو العراق. تكشّف لواكسمان أن عدداً من العاملين مع الرئيس الأميركي يمتلكون أسهما في الشركات التي تعاقد معها البنتاغون، كما تكشّف له تورط الحكومة العراقية التي يديرها نوري المالكي الذي لم يمضِ سوى عام على وجوده في السلطة، بعدد من ملفات الفساد، إضافة إلى ان المالكي مَنَعَ بقرار شخصي مساءلةَ أي وزير إلا بإذنه. حينذاك، استضاف واكسمان ومجموعةٌ من الديموقراطيين القاضي راضي حمزة الراضي، أوّل رئيس لهيئة النزاهة في العراق من 2004 إلى 2007، والهارب توّاً إلى الولايات المتحدة، ليقدم شهادة أمام مجلس النواب الأميركي عن هدر وفساد حكومة المالكي وتكتّمها عنهما. إلا أنه سرعان ما اصطدم بما سمّاه "تجاهل" الخارجيّة الأميركية لجميع الملفات المعروضة. ولن يبدو مستغرباً أن يترافق هذا مع تشديد بوش في أكثر من مؤتمر صحافي على القول إن "المالكي رجلنا في العراق". والحال هذه، دخلت مجدداً قطعة بوش إلى بازل الأحوال العراقيّة، وطُردت قطعة واكسمان منها، لا سيما بعد أن تحقّق منجز أمني للمالكي تلخّص بالقضاء على "جيش المهدي"، الميليشيا التابعة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصّدر، في محافظتي بغداد والبصرة.
نهّاب الدولة
وإذا ما كان أحدٌ يفتِّش عن فساد حكومة المالكي في مجلس النواب الأميركي، ويزعجه ضياع أموال العراقيين وتبديدها، فإن العراق في تلك الأوقات كان قد أسس قواعد لاستمرار النهب واستفحاله بمشاركة جميع الأحزاب، حتّى تلك الموجودة خارج السلطة، التي رضيت باحتلال مقرّات تملكها الدولة واعتبرتها حقّاً لها. استفحل الفساد حتى في جهاز القضاء والمؤسسات التشريعية، وبعضها أخذت تُشرّع له القوانين التي تتُيح النهب والسيطرة على مقدّرات البلاد، فلم يتوانَ أعضاء مجلس النوّاب العراقي عن التصويت على تحويل قرض قدره 60000 دولار لشراء سيارات إلى هبة، والحصول على عقار في مكان يختاره النائب، بالإضافة إلى تصويتهم للحصول وعائلاتهم على جوازات سفر ديبلوماسية صالحة للعمل لعشر سنوات، كل هذا في رزمة من التشريعات "قوننها" "نواب الشعب" في جلسة سرية عام 2009 متجاوزة "فيتو" رئاسيا لمرّتين. ثم جاءت الدورة الثانية للمالكي في رئاسة مجلس الوزراء ما بين السنوات 2010 ولغاية 2014 لتثبيت قوام الدولة النهابّة بتحويله الوزارات والمؤسسات الرسمية إلى إقطاعيات للأحزاب المشاركة في الحكومة، ما أدى إلى تضخّم أعداد الموظفين في تلك المؤسسات بفضل صفقات غير معلنة بين هؤلاء وأحزاب السلطة، مؤدياً إلى انهيار القطاعات العامة على حساب الفرد العراقي الغارق في الفقر.
وما فتئت قطعة الديموقراطية تتصدر البازل العراقي المتآكل، معززة بأقوال رجال الدين عن حتمية التمسك بالمشروع الديموقراطي العراقي. إلا أن حتميّة أخرى كانت تأخذ سياقها في الواقع بصرف النظر عن كل التنظيرات الديموقراطية، وهي تحوّل الأحزاب من أوليغارشية متفاهمة إلى أوليغارشيات يسعى إلى كل منها إلى بسط النفوذ والحصول على الأموال والسلطة، ربما تكون أبلغها لحظة 2011 التي اجتمعت فيها بعض الأحزاب في إقليم كردستان من أجل سحب الثقة من المالكي بعد أن أخذ يتفرّد بالسلطة. بيد أن هذا لم يكن اجتماعاً من باب الحرص على إنقاذ البلاد وإنما لتوسيع شبكة اللصوصية لمصلحة كل حزب من الأحزاب، وكأنما البلاد لم تعد تصلح إلا لسلطة فاسدة!
نُهّاب الدول
لم يعد خافياً أن اللصوصية والصراع على السلطة بين الأحزاب العراقيّة يشكلان أبرز الأسباب التي أدّت إلى سقوط ثلث البلاد في حزيران / يونيو عام 2014 بيد تنظيم "داعش". كان المالكي السّاعي إلى تحويل العراق من النظام البرلماني إلى الرئاسي قد سيطر على المؤسسات الأمنيّة وأغرقها بصفقات الأسلحة الفاسدة، علاوة على تكوينه شبكة قرابية - لا تفقه في العلوم العسكريّة شيئاً - لإدارتها. بينما أخذ ساسة المحافظات التي تعاني من داعش واشباهه يوغلون أكثر في الفساد، ويغرقون السكان في الفقر والبطالة والمشاريع الخدميّة الوهميّة. ليس هذا حصرياً في العراق، بل حوَّلَ حكامُ دول عدة الفساد إلى نظام بذاته، بمساهمة ودعم دول غربيّة، كما تشير الباحثة سارة شايز من معهد "كارنيغي" في كتابها "لصوص الدول"، مشيرة الى بلاد مثل نيجيريا وأفغانستان اللتين تنافسان العراق في معدّلات الفساد على قائمة منظمة الشفافية الدوليّة. والفساد عامل أساسي في تراجع وغياب الأمن في هذه البلاد. وتعتبر شايز يأس السكّان وعزوفهم عن التعاون مع الحكومة من أهم عوامل نمو التطرّف. في السياق العراقي تقدم مدينة الموصل مثالاً بليغاً لذلك، إذ قبل عام من سقوطها بيد "داعش"، كان نحو 70 في المئة من سكان محافظة نينوى يعتقدون إن انعدام الأمن والبطالة أبرز مشكلتين تواجههم، ورأى 35 في المئة منهم أن الأوضاع في محافظتهم تسير نحو الأسوأ، في الوقت الذي أبدى 45 في المئة من سكان الأنبار عدم رضاهم عن أوضاع محافظتهم، وهي المحافظة التي كانت تشهد تظاهرات تطالب بإطلاق سراح المعتقلين غير المُدانين وسوى ذلك من مطالب، ولكنها سُرعان ما ووجهت بالقمع. إلا أن التمثيل الأكثر وضوحاً ليأس سكّان هذه المحافظات من تغيّر أحوالهم هو عدم ثقتهم بالانتخابات التي تُجرى، إذ رأى 82 في المئة من نينوى، و89 في المئة من الأنبار، أن مفوضية الانتخابات غير حيادية في عملها، بحسب "مركز أُفق" لقياس الرأي العام. وجاء هذا اليأس بالتوازي مع ارتفاع نسب الفقر في تلك المحافظات، ففي نينوى بلغت نسبة الفقر نحو 35.5 في المئة من السكّان، وفي الانبار بلغت نحو 15.4 في المئة، وفي صلاح الدين نحو 16.6 في المئة، وفقاً لإحصائية وزارة التخطيط لعام 2012، مضافاً إلى كلّ ذلك حجم البطالة المرتفعة. وإذا ما كانت هذه المحافظات ليست أسوأ حالاً من محافظات أخرى يقبع نحو نصف سكّانها تحت سطوة الفقر مثل محافظة المثنى، إلا أنّها كانت تشهد حملات قمع واعتقالات بشكل متكرّر، الأمر الذي جعلها بيئة متفجّرة على الدوام.
حال تلك المحافظات بات ينطبق اليوم على المحافظات الجنوبيّة والوسطى التي أخذ نجم الميليشيات يسطع فيها بعد أن ردّت خطر تنظيم "داعش" عنها، وهو ما أخاف الأحزاب المتجذرّة في "العمليّة السياسية" وجعلها "تقونن" وجود الميليشيات من خلال تكوين "هيئة" تابعة لرئاسة مجلس الوزراء من أجل السيطرة على وجودها في المستقبل، فضلاً عن تشجيع بعضها على تكوين أحزاب سياسيّة لخوض الانتخابات، وهي صفقة زبائنية جديدة.
تكمن المفارقة في كون "لصوص الدول" هم الأكثر حرصاً على تشريع القوانين والالتفاف عليها من أجل توسيع شبكة المصالح الشخصيّة بحسب سارة شايز، وهذا ما جعل العراق أيضاً من أكثر الدول التي شكّلت لجان تحقيق في قضايا كبرى تبدأ من صفقات الفساد، ولا تنتهي بسقوط مدوٍّ لثلث البلاد بيد تنظيم إرهابي. إلا أن أحدّاً لم يُقَدَّم إلى القضاء ليحاسب على أفعاله سوى أكباش فداء من موظفين صغار في هذه المؤسسة أو تلك.
وأما الخسارة فمطبقة حتى على أبطال الفساد أنفسهم، بعد فقدانهم لمنصّات درّ المال الكبرى. فنوري المالكي، المقاتل لولاية ثالثة بخلاف القانون، قال: "أنا وجميع السياسيين فشلنا ويجب عدم اعطائنا أي دور في رسم خريطة العملية السياسية في العراق"! وأياد علاوي، أحد أبرز عرّابي احتلال بغداد، بدا أكثر يأساً حين قال إن "العملية السياسية ماتت، بل هي وُلدت ميتة أساساً، لأنها قامت في ظل احتلال وعلى أساس الطائفية السياسية والتهميش والإقصاء والترويع والقهر والدمار"..؟!
وإذا كان "الصقور" بهذا اليأس، وهم الذين أهدروا حوالي تريليون دولار في صفقات فاسدة دون أن يُحاسَبوا، فكيف بحال العراقيين الذين يشاهدون لوحة أحوالهم على وشك أن تتهدّم من جديد، بينما لم تكن لهم أيّ يد في صناعتها؟