في البدء كانت "نيبور"، المركز الروحي للسومريين في الألف الثالث قبل الميلاد، وزقورة الإله إنليل، ومن ثمّ صارت "الحَسَكة"، وهو النبات الذي يعلق في فرو الأغنام، وصارت أخيراً "الديوانية"، وهو المكان الذي يجتمع فيه شيوخ العشائر لحلِّ الخلافات التي تحدث بين أبناء عشائرهم، ومنها استمدت أسمها واستقرّت عليه لعقود طويلة قبل أن يستعير لها صدّام حسين اسم معركة "القادسية" التي جرت بين العرب والفرس، ضمن هوسه بتغيير الأسماء وصبغها بأحداث تاريخية. لكن احتلال بغداد في نيسان/ ابريل عام 2003 أعاد إليها اسمها السابق مجدداً.
يحد محافظة الديوانية، التي تبعد 180 كم عن بغداد، من الشمال محافظتي بابل وواسط، ومن الشرق محافظة ذي قار، ومن الجنوب محافظة المثنى، ومن الغرب محافظة النجف. وعلى سبيل النكتة، التي يبرع العراقيون فيها بالسخرية من المدن الهامشية أو المهمّشة، فهم يسمون المدن المشابهة للديوانية (وهي كثيرة) بـ"القطّة الميّتة على الطريق"، وهو تعبير مجازي عن شيء لا يجب النظر إليه، ولا التوقّف عنده، لكنه في الوقت ذاته له مدلولاته الأخرى. فالقطّة لا تسقط فجأة ميّتة، لا بد وأن سيارة دهستها صدفة، أو قطار مرَّ على أضلعها وهشّمها ونفقت روحها. وهناك سؤال يتخلّق من التفسير: هل كانت القطّة قد بلغت من الغباء الذي دفعها إلى الموت بهذه الطريقة البشعة، أم أن السيارة أو القطار كانا من الرعونة ما دفعهما إلى تغيير مقاودهما نحو القطّة لتموت ميتتها الشنيعة تلك؟
الطريق إلى نيبور
زرت الديوانية في العام الأخير من عقد التسعينيات حين اصطحبنا والدي اليها. كان مطلوباً للحكومة العراقيّة، إلا ان من استقبلنا في منزله كان ضابطاً في الشرطة العراقيّة. "أهل الديوانية طيبون، ولن يسلّمنا أحد إلى الحكومة"، هكذا كان يردّد طيلة الرحلة على مسامع والدتي.
لم أسمع عن المكان شيئاً قبل ذلك، إلا أني اعتقدت أن أي مدينة في العراق لا بدَّ من أن تشبه بغداد: ضوء وبنايات وليل. توقعاتي كانت هباء. الديوانية حينذاك أرض جرداء. بلا إعمار، والفقر بادٍ على ملاح سكّان المدينة، والمنازل بسيطة، والشوارع بلا خدمات، والغبار يحلق في الصيف ليشكل مزيجاً مزعجاً مع الحشرات الكبيرة بسبب بيئة المحافظة الزراعية.
والذي يزور الديوانية لا بد من أن يعود إليها مرّة أخرى، ليس بسبب معالمها، فهي تكاد تخلو من أي معالم، فحتّى "نيبور" هي حطام يأمل السكّان أن يعاد ترميمه، بل بسبب سكّانها الذين يرحبّون بالغريب، ويشغلون أنفسهم به، ويفتحون منازلهم له. هؤلاء خليط بين أبناء مدينة، وأولاد قبيلة. لا يسخرون من ذوي الأشكال الغريبة مثلي، القادمين من العاصمة، وإنما يتفاجأون بها. كان أحد الأصدقاء معي في زيارة للمشاركة في مهرجان شعري في الديوانية بعد 15 عاماً من غيابي عنها: لم تتطوّر، بقيت على حالها. هناك جسر غريب وقبيح انتصب على مدخلها، ولا أحد يدري لما شيّد، فهي لا تعاني زحاماً أبداً، وليس فيها هوس شراء السيارات كما في بقيّة المحافظات الأخرى، وهذا ليس ترفعاً من أهل المدينة، وإنما لفقرهم.
عندما نظر صديقي ملياً إلى السكّان قال "ألا ينظرون إلى شاشات التلفزيون هنا؟". هذه استعارة أخرى يردّدها العراقيون عن قدم موديلات ألبسة السكّان. هؤلاء، هنا، لا يهتمّون بالتأكيد بذلك، فهناك أمور تشغلهم أكثر: ضنك العيش وأزمة السكن، وعدم اهتمام الحكومة المركزية بهم، بالإضافة إلى تناسل الميليشيات داخل المدينة، واحتكار الأحزاب للمشاريع، وحتّى لـ"التهريب"، كل هذا لا بد من أن يبعدهم عن ترف موديلات الألبسة.
فقر وكحول وعشوائيات
يقدر عدد سكّان الديوانية، التي تشتهر بالزراعة، بنحو مليون و200 ألف نسمة، وتحتكر الأحزاب المحليّة كلَّ شيء، من المشاريع الاستثمارية، وصولاً إلى تهريب "المشروبات الكحولية". وهذا، كما هو الحال في جميع المحافظات الأخرى، له زبائنه. العراقيون يحبون "الشرب" بطبيعة الحال، ومجلس المحافظة يمنع تداوله، لكن من يقوم بتهريبه إلى داخل المدينة هي الأحزاب الإسلامية نفسها التي تمنعه، لأنه يشكّل مصدراً لأرباح كبيرة بسبب الإقبال على هذه المشروبات. قال مضيّفي: يمكن إدخال سيارة مفخخة عبر الحاجز الرئيسي للمحافظة، إلا ان تهريب قنينة خمر عبر الحاجز ذاته أمر مستحيل.
الديوانية الواقعة على ضفاف نهر الفرات، يعاني من الفقر حوالي 35 في المئة من سكانها، أي 400 ألف انسان، وتعدّ نسبة البطالة في الديوانية الأعلى بين المحافظات العراقيّة الأخرى، حيث تتجاوز 39 في المئة، ويؤثّر هذا الأمر المرتفع من الفقر والبطالة على مستوى السكن، إذ ارتفع عدد الساكنين في العشوائيات، وهي مساكن بسيطة بناها أصحابها على أراضي الدولة خلافاً للقانون ومن دون تخطيط او استفادة من أي بنى تحتية، وقد ارتفعت خلال العام الأخير من 4 آلاف وحدة إلى 10 آلاف في مركز المحافظة والأقضية والنواحي.
تردي سوق العمل والعشوائيات تؤثّر بالطبع في التعليم أيضاً، والذي غالباً ما يكون الخاصرة الرخوة في أوضاع مضطربة كهذه، وسيكون تأثيره في المرأة أكثر مما هو في الرجل، بسبب تضافر السلطتين الدينية والعشائرية على إحلال "مبادئهما" عليها، وتبلغ نسبة النساء المتزوجات تحت سنّ الـ18 نحو 22 في المئة، و70 في المئة من النساء لم يكملن تحصيلهن العلمي، فضلاً عن ان 70 في المئة منهن يتعرضن للعنف النفسي أو الجسدي، وفقاً لمديرية احصاء محافظة الديوانية.
صراع النفط والزراعة
المورد الرئيس لمحافظات الديوانية هو الزراعة، وتبلغ المساحات الصالحة للزراعة فيها نحو ثلاثة ملايين و268 ألف دونم، وهي تختص بزراعة الحبوب، وخصوصاً رز "العنبر" الذي ينافس أفضل أنواع الرز العالميّة، وهو ذو رائحة عطرة فواحة وطعم لذيذ. إلا أن ما يستثمر من هذه الأرض لا يتعدى المليون و420 ألف دونم فقط، وذلك بسبب شح المياه وفق حصّتها المائية التي تمنحها إياها الحكومة المركزية من نهر الفرات.
وليست قلة الماء وحدها ما يؤثِّر في الواقع الزراعي. فتشريع الأبواب أمام الاستيراد أثَّر بشكل كبير في الزراعة هنا، بالإضافة إلى تعاقد وزارة الزراعة مع شركات أسمدة ومبيدات ذات نوعيات رديئة مما زاد من طين الزراعة بلّة، فهذان الأمران أديا إلى إنتاج محاصيل سيئة مقارنة مع ما كانت تنتجه في السابق.
إلا ان الرز والحبوب لم يكونا وحدهما ضحيّة السياسات الخاطئة للحكومتين المحليّة والمركزية. فللنخيل حصته أيضاً. والديوانية التي كانت تحتضن 3 ملايين نخلة طوال العقود الماضية، باتت لا تمتلك الآن سوى مليون نخلة فقط.
فساد وقطط وقطارات
بدلاً من أن تبحث الديوانية عن حلول ناجعة لإغاثة زراعتها التي تحتضر، صارت مصرّة على مطالبة وزارة النفط بإدراجها ضمن خطط "الاستكشافات النفطية" لاستخراج النفط من أراضيها، ولتحصل بذلك على نسبة من البترودولار (5 دولارات عن كل برميل يستخرج من أرضها)، ولتكون من المحافظات المنتجة للنفط التي يُزيد تخصيصها من الموازنة، لأنها تشكو من "شحّة" الأموال المخصصة لها. لكن هذه الحجة تبدو باطلة، ففي عام 2012 أنفقت الديوانية 50 في المئة فقط من الحصة المخصصة لها في الموازنة المركزية، والتي تبلغ نحو 200 مليون دولار، بالرغم من أنها في ذلك العام شخصت وجود نحو 1000 قرية تفتقر إلى وجود الخدمات الأساسية.
وفي العام الماضي، اتضح أن 400 مليون دولار "ضيّعتها" الحكومات المحليّة خلال 5 أعوام على مشاريع، نتيجة "التخبط والمجاملات"، وما وُضع بين قوسين هو تلطيف لتسمية الفساد في العراق. حجم الفساد وسوء الإدارة لا بد من أن يُخثِّرا وقت المدينة حتّى يتوقف، صانعاً من المحافظة شيئاً محنّطاً على توقيت قديم، لا يتزامن مع ما تشهده المدن عادة من تطوّر سريع.
في المحصلّة، فإن لحظة 2003 في مجملها، كانت دعوة لفكّ المركزيّة السياسية، ومنح المحافظات الصلاحية الكافيّة لتدير أمورها بنفسها، وترتبط بالمركز "بغداد" عبر السياسات الوطنيّة والمهمّة فقط. إلا ان التشويه مشوّه قتل هذه المحافظات: سكّة القطار المركزي الأرعن الذي سحق القطة، وغباء القطّة التي دفعت بها المحافظة تحت القطار الأرعن.