لم يكن 2014 في العراق عاماً عادياً بالتأكيد، بل كان أشبه بفيلم أميركي طويل متخم بمشاهد القتل والدمار. محافظات البلد الغربية والشمالية ساحات قتال لم تهدأ فيها أصوات المدافع وأزيز الطائرات، وفي عمق المشهد طوفان من الأسر المهجرة التي لا تحمل سوى ما يغطي أجسادها من أسمال لا تقيها حر الصيف أو برد الشتاء القارس وأمطاره. نسوة وأطفال هائمون في الصحراء أو الجبال خشية سقوط صاروخ عليهم، بينما يَحْني الرجال رؤوسهم كي لا تطالها رصاصة طائشة. وسط هذه المشاهد الصاخبة، يقف الصحافي فاغراً فاه عاجزاً عن الإلمام بتفاصيل المشهد. هكذا هي الأحداث، متشظية وكبيرة، حتّى أن اللغة تعجز عن مجاراتها، وبعض الكتاب والصحافيين المهرة أُصيبوا بالشلل أمام جسامتها، ووقفوا عاجزين عن تحليل أسبابها التي تشبه الطلاسم.
إنه عام الخسارات والخذلان. عام تحول على موقع التواصل الاجتماعي («فيسبوك» مثلا) إلى مناسبة للندب والنواح على أيام من حياة العراقيين ذهبت هدراً وسط الأحداث السياسية والأمنية المتفاقمة. تذكّر الجميع سقوط ثلث مساحة العراق بيد تنظيم «داعش»، وازدياد نسبة التفجيرات وحالات الخطف، وركود الأسواق. الجميع يتشبث بأمل أن يكون العام الجديد 2015 خاليا من مآسي العام الذي سبقه.
أفق غائم
بالرغم من أن لا أفق للأمل في العام الجديد، حيث إنه بدأ مع إجراءات تقشّف في الموازنة العامة للبلاد التي بلغت نحو 102,5 مليار دولار أميركي، وبعجز يناهز 19 في المئة، وتراجع عن قرارات في زيادة مرتبات الموظفين، ورفع الضرائب على السلع إلى نحو 20 في المئة، فضلاً عن خيار «الادخار الإجباري» الذي قد ترفعه الحكومة في أي لحظة بوجه الموظفين، مقلّلة بذلك من مرتباتهم، مجاراة لـ «اقتصاد الحرب» الذي وجد العراق نفسه في خضمه بسبب المواجهات المتعددة الجبهات مع «داعش».. وسط ركام هذه القرارات، بدا العراقيون حاملين أملهم على ظهورهم وهم يجوبون الشوارع، إذ لا شيء أمامهم لتغيير الواقع غير التشبث بالأمل.
أمانة بغداد نفضت التراب عن ناموسية خضراء ونشرتها في ساحة الاندلس وسط العاصمة ـ الساحة التي شهدت تهديم تمثال الرئيس الأسبق صدام حسين، إعلاناً عن سقوطها وإعلاناً أيضاً عن احتلال العراق من قبل القوات الأميركية، لتجعل منها ما يشبه شجرة عيد الميلاد. وتداول بعض الشبّان أسماء محال لقضاء سهرة رأس السنة، ليس هناك حيّز عام بالتأكيد للاحتفال، «الدولة» تسيطر على كل مكان، رجال الأمن موزعون على الساحات العامّة، يساعدهم في ذلك رجال الميليشيات الذين لا يودّون الاحتفال أبداً، ولا يمكن لأحد مخالفة رغباتهم.
سنجلس في المحال المغلقة ككلِّ عام، ونعدّ الأرقام التنازلية لنهاية عام وبدء عام جديد نعرف جميعاً ما يحمل من أزمات متعاقبة.
الاحتلال والفيدرالية
تعلو نبرة «الفيدراليات» المتصاعدة من جديد لتدشن العام الجديد، بدءاً من البصرة التي رسمت علمها الأزرق، ودفعت بسياسييها الى الفضائيات لعرض المظالم والمطالبة بإقامة إقليم يتمتّع بأموال النفط المستخرج من حقول المحافظة، وهو يزيد على 80 في المئة من عموم المستخرج من آبار النفط العراقية، وفقا لصيغة اتخاذ قرارات «الاقليم» بعيداً عن سطوة المركز، استلهاماً لحالة اقليم كردستان. كذلك فعلت الديوانية بصوت خجول، وثمّة من ذهب أبعد من ذلك ليقترح «دولة سومر» التي تمتد على طول محافظات الجنوب، مستعيدين بذلك ثقل التاريخ كلّه إلى الأيام العراقيّة المعاصرة، التي تمثل أسوأ مراحله التاريخية، وكأن هذه «الحلول» ستنجّي العراق من الفساد والسياسيين الذين يقفون خلفه.
بالمقابل، لم تكن محافظتا الأنبار وصلاح الدين بعيدتين عن هذا الخطاب، فسياسيوهما يتحينون الفرصة للإعلان عنهما إقليمين، خاصّة بعد أن يُصبح لهما حرسهما ضمن قانون «حرس الإقليم» الذي سيحمي المحافظات من الأخطار المحدقة بها، والذي تمّ بمقترح وتسوية أميركية بين هذه المحافظات والحكومة الاتحادية في بغداد!
هكذا.. لن يبدو العام العراقي الجديد رخواً وليّناً وطاوياً للمشاكل، بل سيكون في عين العاصفة التي تُدوّرها التأثيرات الإقليمية والدوليّة، ولا سيما الأميركية منها، والتي باتت تعقد المؤتمر تلو الآخر لـ «تقرّب» وجهات النظر بين الحكومة «الشيعية» والمعارضة «السنيّة» والتي حرصت على ألا ينتهي عام 2014 دون أن تشهد انعقاد «المؤتمر العربي لمكافحة الارهاب والتطرف» في مدينة اربيل ليعيد الى الساحة السياسية اللغط المتعلق بالصفقات التي تعقد بعيداً عن الحكومة الاتحادية والتي غالباً ما تفضي إلى تأزيم العلاقات البينية، ولا سيما بين المركز وإقليم كردستان، والعلاقة بين الطوائف العراقية المختلفة.
عام الكساد
هو إذاً عام أزمات بامتياز إذا ما استمرّت السياسات على هذه الوتيرة، عام الإنفاق على صفقات السلاح الكبيرة مع واشنطن التي لم تفِ بالتزاماتها في صفقات السلاح السابقة، وآخرها تأجيل تسليم طائرات أف 16. هو عام الكساد والعجز، الذي رجحت كفته لمصلحة الحرب على حساب المجتمع بكل قطاعاته، ليصير عام الجوع والأميّة أيضاً، إذ ستظلّ أبنية المدارس عبارة عن خرائب مكتظة بالتلاميذ الذين يتناوبون على الدوام صباحاً وظهراً وعصراً في المبنى ذاته الذي تشغله ثلاث مدارس، لأن الموازنة لن تخصص أموالاً لبناء المدارس. كما أنها خفّضت حصّة وزارة التجارة الى النصف، على الرغم من أنها مسؤولة عن توفير السلّة الغذائية الشهرية المجانيّة ضمن سياسة البطاقة التموينية المتوارثة عن النظام السابق، والذي كان ملتزماً بتوفير مفرداتها، على عكس ما هو حاصل الآن، حيث لم يحصل المواطن إلا على أقل من نصف تلك المفردات بالرغم من المبالغ الكبيرة المعلنة للصرف على تلك البطاقة.. فكيف سيكون الحال بعد هذا التخفيض؟
إنه عام البطالة بعدما حُجِّم الإنفاق على المشاريع الاستثمارية، وعام «الريع» النفطي الذي يواجه أقسى حرب أسعار منذ أكثر من عقد، خاصّة وهو يواجه أيضاً حرب الكرّ والفرّ مع «داعش» الذي يغزو أنابيب تصديره كل يوم، بينما لا مصدر آخر ينافسه في واردات العراق المالية. فحتّى الأرض الزراعية توشك أن تكون يباباً بعدما غادرها الفلاحون نتيجة إلغاء الحكومة للضرائب المستوفاة عن المواد الزراعية المستوردة من الأردن، ما جعلها منافساً للزراعة العراقيّة التي تعاني انحطاطاً بسبب الفساد الذي أدخل إليها الأسمدة والحبوب المستوردة التالفة، ما جعلها تتخلّف عن مثيلاتها العربيّة والعالمية.
رغم الأمل القلق بعام 2015، إلا أن حالات الفشل والفساد المستشري الذي رافق عام 2014 تلقي بظلالها على العام الجديد، وإن لم تحل على العراق معجزة إلهية كعودة أسعار النفط إلى مستوياتها التي كانت عليها قبل عام والتي تجاوزت المئة دولار للبرميل، فإن العراق سيبقى محمولاً على كف عفريت، ولن يكون حلول عام جديد على أنقاض عام قديم سوى تغيير.. في أرقام التقاويم فقط.