"القارب الذي لاح لي في النهر كان جثةً" - كمال سبتي
في العام 2005، تساءل محمّد مظلوم، الشاعر والباحث العراقي، في أول صفحة من كتابه "عراق الكولونيالية الجديدة"، عما إذا كان الوضع يخص "عراق يتشكّل أم عراق يتقوّض؟".
وعنوان الكتاب نفسه يختزل فحوى ما خلّفته الصواريخ المرعبة، والدمار الهائل، والموت الذي أدّت إليه سياسة الإدارة الأميركية في العراق. كان هذا السؤال، المنزوع من "آل" التعريف عن بلاد ما بين النهرين، بمثابة دلو الثّلج الذي يوضع على رأس العراقيين السعداء بالتخلّص، في نيسان / أبريل 2003، من ربقة الدكتاتور المجنون، الذي حوّلهم إلى فئران تجارب لحروبه، ومعرفة ما إذا كانوا سيصمدون أمام أعدائه أم لا. كان السؤال وقتها – مجرّد السؤال - هو إعلان رفض لـ "الدولة الديموقراطية" التي حملها الجيش الأميركي وطاف بها المحيطات من أجل منحها للعراقيين. كما أنّه، بتفسير النخبة المتغنيّة آنذاك بالسياسيين الجدد ووداعة الجنود الأميركيين، يعني إعلاناً بالوقوف إلى صفّ الديكتاتور.
جاء السّؤال في وقت كانت فيه الإدارة الأميركية تتشدق عبر مقالات وتقارير صحفييها، والماكنة الإعلامية المدعومة منها، بأنها كانت على دراية كاملة بتحرّكات صدّام، وكانت البرامج الوثائقية تفيد بأنها زرعت جواسيس مقرّبين من الدكتاتور، وكانت تؤكد أن الدولة التي بُنيت على أسس فرديّة يمسكها صدّام بقبضة حديدية قد تهالكت، لاسيما بعد حصار اقتصادي استمر لعقد ونيّف، ما يعني سهولة اغتياله، وإرساء مرحلة انتقالية بديلة كفيلة بتغيير النظام الذي كان يرتبط بالقائد الفرد.
صدّام "الغربي"
يرى مظلوم أن الكولونيالية البريطانية إبان تأسيس العراق كدولة، بعد خلاصها من الحكم العثماني، أدّت إلى صناعة الحكومات والأنظمة الهشّة التي لم تحظَ بالاستقرار، والتي كانت لا بد أن تنتهي بدكتاتورية صدّام حسين، السياسي الذي كان يحلم بتقمصّ الشخصيات التاريخية المتنافرة. إلا أن صدّام نفسه بنى "مجده" الدكتاتوري على أُسس الديموقراطيات الغربيّة. ففي الوقت الذي وصل فيه إلى السّلطة العام 1979 والذي كان يُمعن فيه بقتل معارضيه اليساريين والإسلاميين في الداخل، ويغتال أولئك الذين فرّوا من قبضته إلى الخارج، كانت الديموقراطيات الغربيّة تزيد دعمه طالما أنه يحقّق زيادة في مدخولاتها ولاسيما من السلاح. ففي العام 1984 أنفق العراق نصف إنتاجه الوطني على السلاح، أي نحو 14 مليار دولار. وبين 1982 و1985 استورد صدّام بنحو 42.8 مليار دولار أسلحة، وبذلك استحوذت حكومة "القائد الضرورة" على نحو 10 في المئة من الأسلحة المنتَجة على كوكب الأرض.
أخطاء صدّام التي حلّت بسببها لعنة الجوع والموت على العراق، لم تكن بمعزل عن إرادة الإدارة الأميركية. فقبيل احتلال الكويت مثلاً، لمّح صدّام للسفيرة الأميركية في بغداد بأنه سيغزو الكويت، وكان ردّ السفيرة حينذاك أن هذه "شؤون داخلية نحن لسنا طرفاً فيها"، وكانت الإدارة الأميركية حينها تراقب 120 ألف جندي عراقي من الحرس الجمهوري مع آلياتهم وهم يتوزعون قرب الحدود الكويتية. وفسرّ البيت الأبيض للكويتيين أن هذه مناورة عسكرية يجريها صدّام، ولا شيء مخيفاً في ذلك. وقد خرج العراق من تلك المغامرة التي خاضها مديناً بنحو 39 مليار دولار لنادي باريس الاقتصادي وبعض الدول الأخرى، إضافة الى ما يقارب هذا المبلغ كتعويضات للكويت، علاوة على أن جميع مقدرات البلاد في سنوات التسعينيات كانت بيد الأمم المتحدّة، وكانت هي من تسدّد الديون عن العراق، والتي تفاقمت فوائدها إلى حدّ لحظة سقوط النظام العام 2003. وأبدى نادي باريس بعد ذلك مرونة حيث أطفأ نحو 80 في المئة من الديون، إلا أنها في واقع الحال كانت جميعها فوائد، في حين لم تقْدم الكويت على خطوة مماثلة، وبقي العراق يدفع فاتورة تلك المغامرة التي خاضها صدام، حتى بعد رحيله.
الغول الذي تمرّد
غول البعث الذي ساهم المجتمع الدولي في تسمينه، والذي تمرَّد وهو يخوض في وحل الحروب والأزمات، كان لا بدّ من أن تُرْديه الإدارة الأميركية قتيلاً.. هكذا حلّت لحظة الحرب، جارّة خلفها سلسلة من الأكاذيب عن أسلحة دمار شامل تهدد أمن واشنطن وتل أبيب.
صُرع تمثال صدّام حسين في ساحة الفردوس وسط بغداد، ودمّرت واشنطن مؤسسات الدولة، منذ دخول قوّاتها العاصمة، وحلّت جميع الكيانات التي كان من الممكن أن تكون ضامناً لعدم زعزعة الدولة، بل ولتقويتها، واستولدت بل ونظّرت لنهج المحاصصة الطائفية وفق قوانين خلافيّة ومتفجّرة، ووافقت على السياسة النفعية التي انتهجتها الأحزاب السياسية، وعلى إقصاء وتهميش فئات كاملة من المجتمع، وشجّعت على بناء "الدولة الفاشلة" من خلال دعمها للفساد الذي شارك فيه مسؤولوها في صندوق إعادة إعمار العراق.
وبعد عامين، أي في العام 2005، ساعدت إدارة المحافظين الجدد على إصدار دستور هش يشبه "كتاب الرمل" (في قصّة خورخي بورخس) بتعميق الهوّة بين المركز وإقليم كردستان وبقيّة المحافظات، من خلال عدم وضوحه، إّذ يتبين أنه دستور لا يدعم المركزية في الكثير من بنوده، لكنه يدعمها في بنود أخرى، الأمر الذي جعله خاضعاً لمزاج "السلاطين" و "قضاتهم" في تفسيرها.
وبعد العمليات التي ازدادت على قواتها من قبل الفصائل العراقيّة المسلّحة، كان لا بد أن تشعل القيادة الاميركية في العراق حرباً أهليّة لتخفّف الوطأة المتزايدة على عناصرها وآلياتها. وهكذا أوعزت لرئيس الوزراء الأسبق، ووزير الخارجيّة الحالي، ابراهيم الجعفري، بضخّ الأسلحة للميليشيات الشيعية، والسماح للفصائل السنيّة باستيراد السلاح المهرّب عبر الحدود الممتدة مع تركيا وسوريا والسعودية والأردن.
وبعد الاقتتال الأهلي الذي دام سنتين، وكان حطبه العُزَّل من الطائفتين، لمّعت الإدارة الأميركية السلطة الجديدة في العراق، وأخذت الأخيرة بالتغلغل في مفاصل المجتمع، فهمّشت فئات بكاملها وأرست أخرى بليدة محلّها. وحلّت فئة التجّار الجدد الذين يسعون إلى الربح السريع عبر التعاقد مع السلطة لاستيراد سلع سيئة، أو بناء البنى التحتية المهدّمة بطرق غبيّة في البلاد، مقابل منح نسب مئوية لرجالات الحكومة وأحزابها.
وبعد خروج قوّات الاحتلال من العراق، دعمت واشنطن بقوّة نوري المالكي، المريض بداء السلطة والعظمة، واعتبرته شريكاً رئيسياً في العراق، حتّى عاث فساداً، وعمَّق من حدّة الخلاف بين الطوائف والقوميات العراقيّة، وزاد من التجويع، وأرسى دعائم الزبائنية في أرض السياسة العراقيّة عميقاً، وزاد في إفشال الجيش (يُتهم ابنه وصهراه ببيع المناصب الكبيرة في الجيش مقابل الأموال)، والاستعانة بأشخاص ذوي تواريخ إجرامية في الجيش والشرطة، الأمر الذي ساعد في إضعاف الأمن، وزادت من الطين بلّة العقود التسليحية الفاسدة التي عُقدت طوال وجوده في ولايتيه.
لحظة "داعش"
ليلة العاشر من حزيران/ يونيو من العام الماضي، كانت الليلة التي كشف قمرها عن هشاشة السّلطة، حين سيطر تنظيم "داعش" على نحو ثلث مساحة البلاد، وانهزمت أمامه قوّات أمنيّة قضمت نحو 20 في المئة من إنفاقات العراق خلال عقد من الزمن (وهي أموال لا يمكن حصرها برقم). إلا أن أحدّاً لم يستغل تلك الفرصة، وتم فوراً، على الطريقة "البعثية"، استيلاد المؤامرات.. وهكذا وُلدت لغة "الحواضن السنيّة" و "الساسة الدواعش"، بدلاً من الاعتراف بأن العراق دولة هشة وتائهة وغارقة في الفساد والطائفية.
بالمقابل، لم يعنِ القصف على مواقع "داعش" للدول التي شكلت "التحالف الدولي" إلا المزيد من الاستثمار في هذه الأرض الخراب التي لا تدرّ سوى النفط. ففرنسا بدأت الآن تَعِدُ، عبر مندوبيها في العراق، المنظمات المدنيّة والثقافيّة بالأموال لأن شركة "توتال" النفطية ستعود إلى بلاد الرافدين لاستخراج النفط، كما أن الإدارة الأميركية، التي تعترف – بوقاحة - بأعداد المقاتلين في صفوف "داعش" الذين يحملون جنسيتها، ستعود لبناء ما دمّرته صواريخها بأجور مضاعفة، وهذا بالإضافة إلى صفقات التسليح التي استمر الإعلان عنها منذ حزيران/ يونيو وحتّى الآن، من دون أن تكشف حكومة بغداد صراحة عن حجم إنفاقها (كان آخرها طلباً للأسلحة بقيمة 15 مليار دولار) لتجميل ملامح الهزيمة وطرد تنظيم "داعش" .
البحث عن الزمن المفقود
اثنا عشر عاماً مرّت حتّى الآن منذ غزو العراق واحتلاله من قبل القوات الأميركية، لم يعرف العراقيون خلالها سوى اجترار مقولات الديموقراطية وحقوق الإنسان من دون أن يجدوا لها أي تطبيق على الأرض. السياسيون الذين يتناوبون على المناصب بعد بازار الانتخابات، ينهبون ثروات البلد علناً من دون أن يقدِّموا الحد الأدنى من الخدمات في أي من المجالات التعليمية والصحية وفي كل ما يتعلق بالبنى التحتية لبلد لم يتبق منه سوى الأنقاض. مشاريع وهمية تقول لجنة برلمانية إنها تجاوزت التسعة آلاف خلال الأعوام 2010- 2014، فيما يعلن نائب رئيس الوزراء أن أكثر من ألف مليار دولار فُقدت من ميزانية العراق خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية. الصراع الطائفي، الناتج عن المحاصصة الطائفية السياسية، حصد أرواح مئات آلاف العراقيين في دوامة الموت المجاني والقتل على الهوية. أكثر من خمسة ملايين عراقي مهجر في الخارج والداخل من دون أي أمل بعودتهم الى بلادهم. منظمة الشفافية الدولية تعلن كل عام أن العراق ثالث دولة في حجم الفساد من بين دول العالم.
أليس هذا زمن العبَث العراقي الذي سيجعل أجيالاً كثيرة قادمة تبحث عن جذورها في صفحات الزمن المفقود؟