منذ أشهر، يتظاهر سكّان محافظات إقليم كردستان نتيجة للأزمة الماليّة، واتساع حالة الفقر، وتأخر دفع رواتب الموظفّين، فضلاً عن الاحتجاج على استمرار الأزمة السياسية التي يشهدها الإقليم بسبّب تمسّك مسعود بارزاني بمنصب الرئيس برغم انتهاء ولايته في آب / أغسطس الماضي. وقد سقط في تظاهرات 9 تشرين الأول / أكتوبر قتيلان، ناهيك عن الجرحى إثر القمع المستمر للتظاهرات من قبل القوات الأمنية الكردية.
وطوال العقد الماضي، مَثّل إقليم كردستان العراق بمحافظاته الثلاث، أربيل والسليمانية ودهوك، الجنّة الموعودة بالنسبة للعراقيين الذين يئنون تحت شظايا السيارات المفخّخة، والخائضين أنهر آسنة في الشتاء، والملتاعين في فصل الصيف بسبب غياب الكهرباء. ولم تكن تجربة محافظات الإقليم الثلاث تثير شهيّة سكان المُدن الخَرِبة فحسب، وإنما أولئك السياسيين الساعين حثيثاً إلى تنفيذ تجربة الأقاليم الفيدرالية في وسط وغرب بلاد ما بين النهرين، إذ صار الإقليم والتحوّل الذي يطالب به إلى دولة مشتهاة، الجنّة الموعودة التي يجب أن تُطبّق على جميع محافظات البلاد.
لكن الوقائع التي يعيشها إقليم كردستان اليوم، مع أوّل هزّة اقتصادية يشهدها نتيجة لقطع الحكومة الاتحادية حصته من الموازنة العامة، أثبتت أنه ليس مختلفاً في انتهاج السياسات الخاطئة التي ظلّت الحكومات الاتحادية تتبعها، بالإضافة إلى أن ساسته لا يقلّون فساداً عن أقرانهم في بغداد. فهم يتشابهون - إلى حدٍّ بعيد - في تجربتهم في احتكار السلطة، وهي سلطة قرابية يتوارثها الآن الأبناء والأحفاد من عائلتي بارزاني وطالباني وأنسباؤهم من عوائل أخرى.
العيش على المركز
بعد صراع طويل مع السلطات الاتحادية في بغداد دام تسعة عقود، استغلَّ إقليم كردستان حرب غزو الكويت التي خاضها صدّام حسين في عام 1990 وخرج منها مهزوماً، للحصول على منطقة حكم ذاتي بمساعدة المجتمع الدولي، وليؤسس الإقليم في عام 1992 نظام الحكم الفيدرالي الذي أقرّه برلمان الإقليم، وليشكل فيما بعد حكومة يتقاسمها الحزبان الرئيسيان، الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني، والحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني.
مذاك، أو قبله، اعتمد إقليم كردستان في اقتصاده على حصة من برنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق بسبب العقوبات الدولية ضدّه، بالإضافة إلى اعتماده على جباية الضرائب والرسوم الجمركية على حدوده مع تركيا وإيران، وهي أموال لم تكن قليلة، وكانت إحدى أسباب اندلاع قتال استمر أربعة أعوام بين الحزبين الرئيسيين، بسبب احتكار أحدهما الأموال.
بعد احتلال بغداد من الأميركان في نيسان / أبريل عام 2003، برز إقليم كردستان كحليف للأحزاب الشيعية التي عملت سابقاً على أرضه ضدّ نظام حكم البعث. وعلى هذا الأساس، صيغت بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية، قاعدة الثلث المعطِّل من المقاعد المخصصة للإقليم في البرلمان الاتحادي، بالإضافة إلى الحصول على 17 في المئة كحصّة من الموازنة العامة (يدير إنفاقها برلمان الإقليم) ويُستقَطع منها مبلغ بسيط كمصروفات سيادية.
وعلى هذا المنوال، استمرّت حكومات الإقليم تسيّر أمورها الاقتصادية والسياسية، وترافق ذلك مع عقود شراكة مع شركات نفط عالمية، تم بموجبها استخراج النفط من آبار الإقليم، لتقوم حكومته بتهريبها إلى تركيا حيث يباع الى الخارج.
هذه الصفقة الاقتصادية التي عقدها الإقليم مع أحزاب بغداد وسمحت له بتصدير نفطه منفرداً من دون محاسبة أو عقاب من قبل الحكومة الاتحاديّة، شهدت تصعيداً بلغ حالة الطلاق مطلع عام 2014، حين قطع رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي موازنة الإقليم، وهو ما سببّ أزمة اقتصادية خانقة تأخّر على أثرها دفع مرتبات الموظفين، وأجج موجة تظاهرات في بعض المُدن الكرديّة.
انكشف ساسة الإقليم تماماً أمام مواطنيهم، ولم تبدو خطاباتهم عن "قوّة" اقتصاد الإقليم سوى هباء.
إلا أن الإقليم استعاد جزءاً من عافيته خلال الأشهر الأولى من العام الجاري، بعد عام القحط الذي خيّم عليه، من خلال اللعبة السياسيّة مع بغداد باستثمار مقاعده في البرلمان التي أهّلته ليكون رقماً صعباً في التصويت على حكومة حيدر العبادي التي تشكّلت بعسر بعد الانتخابات البرلمانية عام 2014، حيث نجح بعقد اتفاقية مع بغداد على تصدير 250 الف برميل من النفط تحت إشراف الحكومة الاتحادية، وعن طريق أنبوب نفط انشأه بمساعدة تركية، مقابل حصوله على الـ17 في المئة من الموازنة. وعلى هذا الأساس، أفرجت بغداد عن أموال للإقليم لأشهر عدّة، إلا أن سياسته عادت للعبتها القديمة في تصدير النفط منفصلاً، لا سيما بعد سيطرته على مدينة كركوك التي انسحب منها الجيش العراقي بعد سقوط الموصل في حزيران / يونيو عام 2014، وهو ما دفع بغداد مجدداً إلى قطع حصّته من الموازنة.
اقتصاد بلا اقتصاد
وفرة المال خلال العقد الأخير هيأت للإقليم إنشاء أبنية فاخرة في مراكز مدن كردستان، وراعت كذلك البنية التحتيّة للسياحة مثل الفنادق و "المولات" والمجمعات السياحية والمطاعم، لكنها أيضاً سمحت بدخول الاستثمار الأجنبي بشكلّ فجّ، الذي أسس مستشفيات باهظة الكلفة، علاوة على افتتاح مدارس تركية وأجنبية للتعليم الخاص، وإلى خصخصة الكثير من القطاعات لا سيما الكهرباء التي يشتريها الإقليم من شركة استثمارية، فضلاً عن الاعتماد على المولدات الأهلية الصغيرة.
ما بدا حُلماً لم يكن سوى فقاعة وسوء إدارة للموارد المالية الكبيرة التي تدخل الإقليم عبر أموال الموازنة وتصدير النفط من خلال طرق ملتوية أقرب إلى التهريب. وهذه مشاريع تُغني ساسة الإقليم وأقربائهم، والمستثمرين الأجانب الذين يأملون أن يشكلّوا عنصر ضغط لحصول الإقليم على "دولة" مستقلة في وقت لاحق.
كان بعض الصحافيين الأكراد يخبروننا بلهجتهم المتكسرة: "كاكا إحنا جماعتنا هم يبوكون بس مو كل الفلوس مثل جماعتكم"، وهو يعني أن المسؤولين الأكراد يسرقون أيضاً أموال الموازنة، لكنهم يقيمون بالقليل منها مشاريع ويسرقون المتبقّي، على العكس من ساسة العراق الآخرين الذين يسرقون جميع الأموال من دون أن ينفذّوا أي مشروع على الأرض.
اعتُبر سوق العقار في كردستان، والتسهيلات المصرفية التي ترافقه، أحد أكثر ملامح "النجاح" الذي ظل المسؤولون الأكراد، وزائروهم من العرب والأجانب، يفاخرون به كعلامة على تطوّر البنية التحتية للإقليم. إلا أن مظاهر البنايات الفارهة تلك لم تكن سوى أكثر كذبات "الحداثة" في إقليم كردستان. إذ يتفرج غالبيّة أبناء الإقليم ويتحسرون على تلك الأبنية من دون أن تكون لهم قدرة على شراء شقة أو دفع أقساطها الشهرية بسبب البطالة التي تلاحق 30 في المئة من الشباب الذين يشكّلون نحو نصف المجتمع الكردي، لا سيما في ظلّ تغييب الزراعة التي اشتهر بها الإقليم، خاصّة بعد فتح الباب مشرّعاً أمام استيراد المنتوجات الأجنبيّة، مضافاً إلى ذلك بقاء اعتماد الإقليم على ريع النفط وموازنة الحكومة الاتحادية لتسيير اقتصاده.
عدد سكّان الإقليم نحو 5.5 ملايين نسمة، يعيش نحو مليون و600 الف شخص منهم كموظفين ومتقاعدين على المرتبات الحكومية التي تقدّر بنحو 750 مليون دولار شهرياً. ويشكل هذا العدد نحو ثلث سّكان الإقليم، إضافة إلى كونه يمثل بطالة مقنعّة في أغلب أجهزة الحكومة، إلا أنه يندرج أيضاً في باب الزبائنية السياسية التي تتبعها حكومة بغداد مع مواطنيها، وهو يشكّل ضماناً وسدّاً أمام عدم بروز حالات رفض اجتماعية لسيطرة الحزبين الحاكمين وأقربائهم على السلطة والمال. "وإذا كانت الحكومة الاتحادية تعاني من توزيع طائفي للوزارات ومن يعمل فيها" يقول الباحث كاظم حبيب، فإن "الإقليم يعاني من المسألة ذاتها ولكن على أساس حزبي بشكل خاص".
انفراط العقد
في ليلة 10 تشرين الأول / اكتوبر انفرط عقد "الزبائنية" بين سلطات إقليم كردستان ومواطنيها بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على عدّم تلقي الموظفين مرتباتهم. هياج الشارع الكردي دفعه إلى حرق عدد من مقار الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود بارزاني والذي ينحدر منه رئيس وزراء الإقليم نجيرفان بارزاني ابن شقيق الرئيس وصهره في الوقت ذاته.
باتت الحكومة الكرديّة في مأزق لا تُحسد عليه، فما الذي يجب فعله مقابل هذا الواقع المتفجّر؟ اقترح نائب في البرلمان الكردي على الموظفين والمتقاعدين الحصول على نصف مرتبهم الشهري، وقال عبر صفحته في فايسبوك "ما رأيكم بالموضوع، أليس استلام نصف راتب أفضل من لا شيء؟". إلا أن طرح النائب السمج يُقابله اتفاق أكثر سماجة يتلخّص باحتساب حاجات الإقليم من المال وزيادة الانتاج من النفط للوصول إلى الاكتفاء المالي للحاجات الأساسية. ويقضي هذا الاتفاق الذي كشف عنه الصحافي الكردي سامان نوح، بإنتاج 525 ألف برميل نفط يوميّاً، ما يدّر مبلغاً شهرياً يقترب من 850 مليون دولار، وهو يكفي لمنح المرتبات وفوقها زيادة 100 مليون دولار لسدّ عجز المشاريع المتوقّفة في المُدن الكردية.
لكن هذا الاتفاق (مع ورود أنباء عن سريانه) لم يحلّ المشكلة حتّى الآن، بالإضافة إلى أنه لا يحلّ أزمة أخرى متفجّرة يعانيها الإقليم، وهي ترتّب ديوناً عليه تقدر بنحو 19 مليار دولار، فضلاً عن أن نفط الإقليم يبدو "متطفلاً"، يدخل في منافسة ليس له قدرة عليها، إذ أخذت المجر تشتري النفط من كردستان بدلاً من روسيا، وهو صراع لا يمكن للإقليم، الذي يعاني من هجمات "داعش"، تحمّله، ولا لتركيا التي يمر عبرها النفط الكردي والتي تعاني أزمات داخلية التعامل معه.
وإذا ما عادت الحكومة الاتحادية إلى تهديد الشركات النفطية المتعاونة مع إقليم كردستان بالمقاضاة، فإن نفط الإقليم سيظلّ هائماً في البحار حتّى يجد له مشترياً كما حدث في أيار / مايو عام 2014، عندما اشترته إسرائيل بصفقة تردّد أن سعرها منخفض عن أسعار السوق.
في تظاهرات الأسبوع الماضي تساءل معلّم كردي "إذا كنا إقليم وحالتنا الاقتصادية بهذا الشكل.. فكيف سيصبح حالنا إذا ما أصبحنا دولة؟".
وهذا السؤال الذي يُتداول اليوم في الإقليم، مع ارتكاب مواطنيه الانتحارات بسبب الأزمة الاقتصادية، لا يبدو أن لدى ساسة الإقليم جواباً بشأنه، لا سيما أن الجنّة التي وُعد بها المواطنون الأكراد، لم تبدو سوى كذبة كبيرة، تحوّلت إلى جحيم مع أول هزّة اقتصادية.