مرّت الأيام الأولى من شهر رمضان دون أن يطرق باب المنزل أحد وقت الإفطار كما هي العادة في الأعوام السابقة، إذ إن العراقيين يتبادلون الأطباق في ما بينهم، ويوزّعون بعض الحلوى والأطعمة ثواباً عن أرواح موتاهم خلال الشهر الفضيل الذي يعمّ فيه الخير.
لكن الخير شحيح هذا العام. فقد تأخّرت مرتبّات أغلب الموظفين بسبب التقشّف الذي حلّ مبكّراً في البلاد جرّاء ارتفاع كُلف الحرب، وهبوط أسعار النفط، وضياع الأموال في ملفّات الفساد.. فضلاً عن أن إغلاق الحدود أمام السلع المستوردة بسبب سيطرة تنظيم "داعش" على محافظتين حدوديتين محاذيتين لسوريا وتركيا والأردن، هما الانبار ونينوى، جعل الأسواق هذا العام خالية. لا ينُفق العراقي كثيراً ولا يبذّر، يشتري الحاجات الأساسية ويتحسّب للأيام القادمة، حيث أن الوضع حتّى الآن يعتبر "خيراً" مقارنة بالقادم "الأسوأ"، وفقاً لما يتم ترداده في الشارع، فلذا يجب الاقتصاد في كلّ المشتريات المنزلية.
إذاً، فغياب أيادي الجيران عن باب منزلنا مفهوم، وعلينا التعوّد عليه. العوز حينما يحلّ إلى جانب القلق من المستقبل، يجعل غياب الطَرق مبرراً، والعراقيون لديهم تجربة تسعينيات القرن الماضي حين فرض مجلس الامن قرار الحصار الاقتصادي على العراق، وهي تجربة قاسية مهُلكة.
وبين سخط الصيف الذي يقلب مزاج العراقيين منذ عصور سحيقة، وبين العوز المادي والوضع الاقتصادي المهزوز الذي يجعل من الدينار العراقي متأرجحاً أمام الدولار الاميركي فيؤثر في أسعار الخضار والفاكهة واللحوم ــ وهي مستلزمات المائدة الرمضانية ــ وبين التباس القرار الأمني بين الاجهزة المختصة ومجاميع تفرض إرادتها على الشارع، يبدو موقف العراقي في رمضان ملتبساً هو الآخر. فقد يعتذر من ربه لعدم صومه وسط هذه الظروف، لكنه لا يستطيع الاعتذار من وزارة الداخلية التي تسلط جهدها على مراقبة الفاطرين، إذ سارعت هذه الوزارة إلى إصدار قرار إغلاق المطاعم والمقاهي، وحذّرت "المجاهرين بإفطارهم" بالغرامة أو الحبس، الأمر الذي أثار الانتقاد وذكّر بأجواء "الحملة الإيمانية" التي سادت في أواخر عهد البعث، والتي جاءت على أنقاض العلمانية التي تشكل الرافعة الأيديولوجية لأدبيات الحزب منذ تأسيسه.
لكن وعلى الرغم من هذا، ففي بغداد والمحافظات شبه الآمنة، تتوفر الكهرباء، سواء من محطات الدولة أو من المولدات الأهلية (وإن كانت تكلفتها عاليّة)، كما يتوفر سقف يؤوي من جحيم القيظ، وطعام للصائمين والفاطرين. إلا أن النازحين الذين يفترشون العراء تحت سياط شمس منتصف الصيف، والذين ضاعت عمليات تحرير أراضيهم بين الخلافات الداخليّة والإقليمية، ليس لديهم شيء: الأموال التي خُصّصت لهم تبخرّت، والأمم المتحدة اكتفت بترديد "قلقها" المستمر على حياتهم وأوضاعهم، والحكومة، يقضي معظم وزرائها شهر رمضان خارج العراق، وهي منشغلة بين أولويات عودة من تم تحرير مدنهم، وبين صعوبة توفير الخدمات لهذه المدن التي تدمرت بفعل الحرب، بينما ينعم البرلمانيون بعطلة فصلهم التشريعي، حيث غادر معظمهم ومنذ وقت مبكر من الشهر الى مدن ومنتجعات أوروبية أو عربية، وهذا أضعف الإيمان عند بعضهم. ولم يتبق من معين لهؤلاء النازحين سوى بعض المجموعات الشبابية التي تقوم بجمع أموال بسيطة تشتري لهم بها ما يسد الرمق ويستر العري، وقد يحظى بعضهم بـ "مبردة هواء" بدائية، فيما لا يملك الآخرون سوى ان يتفرّجوا على أحوالهم بمرارة، ويستمعوا إلى قصصهم من على شاشات الفضائيات.
لا شيء غريب أبداً في رمضان هذا العام، فهو يتسق مع ما يجري من فوضى في العراق. القرار الكهنوتي هو السائد على حساب القرار الدستوري الذي يبشر بالحريات ويدّعي حمايتها. ورمضان هذا العام أحيا حكاية الوالي العثماني على البصرة حين حل الصيف في عام ولايته الأول، ولما كاد الحر أن يكون جحيماً تساءل عن سببه، وحين أخبره أحد كبار السن أن هذا الحر من أجل أن يستوي الرطب في أعذاق النخل ويصبح تمراً (العراقيون يؤمنون بهذا منذ القدم) أمر على الفور بقطع أعناق النخيل. فالحكومة والبرلمان، بدل توفير الطاقة الكهربائية والالتزام بتوزيع مفردات البطاقة التموينية وتوزيع رواتب الموظفين في آجالها وتخفيف معاناة النازحين، اقتصرت على إصدار قرار عقوبة المجاهرين بإفطارهم.