ليس جمال خاشقجي ممن نجد معه أي نقاط تلاقي، لا في المواقف السياسية ولا في المنطلقات الفكرية.. فخاشقجي الذي تُمتدح عادة ثقافته وعصريته، كان دوماً جزءاً من الحلقة الضيقة للسلطة السعودية، ما يضع ظلالاً شديدة على تلك الثقافة وتلك العصرية اللتان يتمتع بهما.. إذ نزعم أن الأمور لا يمكن أن تتجزأ.
لكن كل ذلك لا أهمية له حيال ما يبدو أنه صار مصير الرجل، وهو "مجرد" كاتب صحافي وليس جنرالاً يدبر انقلابات وليس أميراً طامعاً بالمُلك وساعياً إليه. وأن يُقتل غدراً وليس حتى إعداماً صريحاً في بلد يمارس عقوبة الاعدام (المريعة أصلاً) على نطاق واسع يطال معارضين أو مخالفين في الرأي، فهو مما يضاعف من بشاعة الفعل.
دخل الصحافي المعروف بقدميه الى القنصلية السعودية في تركيا بناء على موعد مسبق لانجاز معاملة شخصية.. فاختفى! الروايات المتداولة بعد ذلك مرعبة. ولا يغير من الحادث في شيء إنْ لم تصح التفاصيل المتداولة وأن "اكتفي" بأن الرجل قُتل وحسب (!) داخل السفارة.
ولا يعادل البشاعة هنا إلا غرابة الحدث. في وقت من الاوقات، عام 1979، جرى اختطاف المناضل النقابي السعودي، الناصري أو اليساري (لا يهم)، ناصر السعيد من قلب شارع الحمرا في بيروت بعدما نصب له كمين استدرج إليه ويقال إنه رمي من الطائرة في عرض البحر (على طريقة ما كان يفعله كولونيلات الارجنتين بالمناضلين). والرجل كان، علاوة على نشاطه ذاك، شمرياً وحائلياً، قام آل سعود بالاستيلاء على منطقته وإزاحة قبيلته عن السلطة.. هنا، مع كل هذه الصفات، يبدو أن للجريمة "مبرراتها"! ولكن لماذا يُغتال صحافي، حتى وإن تجرأ على بعض النقد، حتى وإن كان ذا صيت ويكتب في صحيفة "واشنطن بوست"؟
السعودية: ليبرالية وحداثية.. استبدادية!
30-06-2018
ثم أن السيناريو نفسه الذي طُبق على خاشقجي يبدو كعلامة جديدة على رعونة ولي العهد السعودي! وهو لو شاء إسكاته الى الأبد – على فرض "حاجته" الى ذلك وليس مجرد غيظه منه – لكان ممكناً تكرار ما اعتُمد مع آل سعيد مثلاً، أو غير ذلك مما هو شائع، كحوادث السير أو الغرق بحمام السباحة الخ.. مما لا يفترض أن يغيب عن خيال أي سلطة.
لماذا إذاً؟
عدا النزق (و"الغضب يفضح طينة البشر" بحسب الامام علي)، وعدا الجنوح المريض الى إراقة الدم، هل هي وسيلة لارهاب الباقين الذين سيتحسسون رؤوسهم.. وهم محقون؟ أم هو جواب على الإهانة – الإهانات – العلنية المتكررة التي وجهها ترامب لمحمد بن سلمان خلال الأسبوع الماضي، وخاشقجي لديه إقامة في الولايات المتحدة، إضافة لجنسيته السعودية، ويكتب في الصحف الأميركية؟ هل هو تحد لأردوغان الذي تربطه علاقات وطيدة بقطر، عدوة السعودية اللدود (كما يمكن للأشقاء ان يصبحوا بناء على الأحقاد)، وآخرها، منذ أيام قبيل حادثة خاشقجي، الاحتفاء بأبهة كبيرة بتلك الهبات السخية من الشيخ تميم؟
...
لعل الحادث يصبح القطرة التي تطفح الكيل.