النقاش المفتوح في العالم حول جريمة باريس يتوزع (إلا ما ندر) بين جناح يعتدّ بالحادث للدعوة إلى تشديد "الحرب على الإرهاب" بكل الوسائل الممكنة، العسكرية والاستخبارية والقمعية (المسماة تمويهاً "أمنية"). وجناح يرد على طبول الحرب والعسْف -- الدائرة في الحقيقة، بينما "الاستسقاء" يجري طلباً للمزيد منها -- بإثبات أن البادي أظلم، و"أنهم" استعماريون قدماء وجدد، ومُنكِّلون عنصريون قدماء وجدد، ولا يحتاجون أصلا لحجة، بل يفبركونها أحياناً. يضاف إلى ذلك سوء تفاهم عميق، أو "ضياع في الترجمة"، يجعل كلاماً من قبيل استنكار "إهانة النبي" غير مفهوم لجمهور تخلى عن المقدسات الدينية الصارمة، أو خفّت عنده حدتها (لمصلحة مقدسات أخرى، كمفهوم "حرية التعبير" الغائم والاستنسابي، وكثير غيره)، كما يجعل كلاماً عن الحرية الفردية (مثلاً) غير مفهوم لكتل بشرية محبطة ويائسة لأنها مطحونة بالإهانة والفقر والقمع والإهمال والتشرد والأمية وغارات الطائرات بلا طيار واليورانيوم المنضب، ونتنياهو، الإرهابي تعريفاً هو ودولته، يتصدر تظاهرة استنكار الإرهاب. كيف يستقيم ذلك؟ يجن الناس عندنا. ويُمْعِنون، كما يمعن هؤلاء المهيمِنون، مصدومين بتعال من "الوحشية" التي تبدو وكأنهم يكتشفون وجودها للتو في هذا العالم.
كل ذلك قائم، ومثير للاهتمام كما للغيظ. ولكنه لا يحجب عطباً قائماً هو الآخر ويحتاج لمواجهة، لعل خوضها هو ما يكسر هذه الحلقة المفرغة، بالغة العنف والدموية، لسطوة "صدام الحضارات"، التعبير المتحذلق ولكن المساوي لقسمة العالم إلى فسطاطين، كلاهما بائس.
ماذا نريد؟ مجرد الانتقام "مِنْهم"، إرعابهم وقتلهم حيث يمكن ذلك، وإرعاب وقتل من "مِنّا" لا يوافق على ذلك بوصفه خائنا أو مرتداً؟ هذه وصفة لحرب أبدية لا تُبقي ولا تذر، فيها "هويات" مختزَلة وهي لذلك مصطنعة وافتراضية، ووصفة للخراب. نحتاج لتعيين قيم حضارية (لا تمثلها بالتأكيد "القاعدة" ولا يمثلها الغرب المعتدي والمنافق)، نتبناها وندعو لها، وتكون رافعة إصلاح مجتمعاتنا. نحتاج لمراجعة نقدية جذرية تقترح تفاهمات حول واقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كما الفكري والثقافي والديني الخ.. ولعل المهمة تبدأ من الكتلة الأخيرة ليمكن التصدي للأولى. نتفاهم مع أنفسنا قبل مجادلة أعدائنا، تجنباً لأن تكون هذه المجادلة الصاخبة وسيلة لتمويه الفشل في حمل المهمة الشاقة.. التي ما فتئت تبتعد عن التبلور ناهيك بالتحقق. لا مناص!