ما إن وضعت معركة الانتخابات صناديقها المطعونة والمشكوك بها جانبا، حتى دخل الزعماء السياسيون في موجة من اللقاءات والاجتماعات، فارتفعت سقوفُ بعضهم، وهبطت سقوف آخرين، وأخذ مؤشر بورصة التحالفات بالتذبذب حسب وقع المزاج السياسي، فأعلن عن اتفاقات، وارتقت أخرى الى تحالفات، لكنها جميعها لم تخرج عن الصور النمطية المرتبطة بالمذهب والدين والعرق.
وبشأن هذه النقطة تحديدا، وبعيدا عن من سيكون رئيسا للوزراء في المرحلة القادمة، يسود داخل الوسط السياسي نهجان لا ثالث لهما حول شكل التحالفات المقبلة، ففيما تروم بعض الأطراف السياسية الحفاظ على شكل التحالفات السابقة التي تغلب عليها الصبغة الفئوية (دينية/ مذهبية/ عرقية)، تسعى أطراف أخرى الى كسرها لأهداف وغايات متعددة.
فالتوجه الأول، تدعمه أطراف خاسرة وأخرى رابحة تخشى استبعادها (عاجلا أم آجلا)، من المشاركة في الحكومات المقبلة، وحلول لأحزاب أخرى محلها، ما قد يؤدي الى تقليص نفوذها داخل السلطة، ومن هذا المنطلق رحب الحزبان الكرديان الرئيسان في إقليم كردستان، بـ"التحالف" بين "سائرون" و"الفتح" الشيعيين، انطلاقا من رغبة كبيرة في العودة الى مربع الائتلافات الفئوية التي تضمن لممثلي المكونات حصصا داخل السلطة.
ويحظى هذا التوجه بدعم ومساندة الدولتين المؤثرتين في الشأن السياسي العراقي، وهما الولايات المتحدة وايران (مع اختلاف في بعض التفاصيل)، لأسباب عديدة تعود الى الأيام الأولى لرسم العملية السياسية التي اشتركتا في صياغتها، وتضمن لهما تقاسم النفوذ المطلوب من خلال أطراف سياسية عراقية مقربة منها.
أما التوجه الثاني، والذي يرغب مؤيدوه في المضي به، فانه يتلخص في كسر التحالفات الطائفية والقومية، والذهاب الى كتلة أكبر تضم أحزابا من مختلف المكونات، لتشكيل الحكومة، فيما يذهب الباقون، ومن مختلف المكونات ايضا، الى خندق المعارضة الذي سيضمن لهم حق الادلاء بارائهم، وتصويب عمل الحكومة من خلال تفعيل الاستجوابات داخل البرلمان.
ولهذا التوجه، أسباب عديدة، بعضها معلنة تتمثل بنبذ العنصرية، والتحرك ضمن "فضاء وطني" واسع عابر للطائفية، يتحول نصف البرلمان خلاله الى السلطة، والنصف الاخر الى المعارضة، وهي حالة ايجابية في ظاهرها، إلا أن ذلك سبب شكلي الى حد كبير، وهناك أسباب خفية، مردّها الى كون الأحزاب التي تروج لهذا الاتجاه ترمي للتمسك بقدر أكبر من الحصص، حفاظا على مكانة أكبر، حتى لا تزاحمها كتل وأحزاب أخرى، كما انها وفي خضم الترويج لهذا التوجه، تسعى لوضع نفسها داخل خندق السلطة، وتستبعد الاخرين.
نجاح الاتجاه الاول، سيبقي على قواعد اللعبة السياسية الحالية، ولن يغير منها شيئا، الأمر الذي سيجعل الاحزاب التي رفعت شعار التغيير، في مواجهة مع جماهيرها التي انتخبتها على اساس شعاراتها، أما نجاح الاتجاه الثاني، فهو وإن كان يعتبر نقلة نوعية في طبيعة الحكم بالعراق، إلا أن نتائج استبعاد الأحزاب الأخرى التي تتمتع بنفوذ كبير، قد تكون غير محسوبة، في ظل الانفلات وضعف الدولة، وغياب القانون.
وسط هذا التجاذب، يظل المدى مفتوحا على الكثير من الأسئلة التي ستجيبنا عليها الأحداث المتلاحقة، فأي الاتجاهين سينجح في النهاية؟ وهل سيكون سلاح التوافق موجها أمام أي رغبة في التغيير؟ نعم ربما سيسود هذا المبدأ على الارجح، إلا إذا كان لاجتماع قادة الكتل السياسية الذي دعا إليه رئيس الوزراء حيدر العبادي مطلع الأسبوع المقبل، رأي آخر.