يوماً بعد يوم، سنة تلو سنة، يتقدم الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي في كافة أرضي فلسطين. يزحف ويشتد، ضمن النمط نفسه، والعقيدة والمناهج التي تبنتها جميع القوى الاستعمارية، الكبرى والصغرى، منذ نشأتها الأوروبية قبل خمسة قرون وحتى عصرنا الحديث. هناك ثلاث عقائد استعمارية رئيسية معتادة ومجربة، امتازت اسرائيل بتنفيذها في تعاملها مع الشعب الفلسطيني المرابط في أرضه، بثبات يتفاوت نجاحه بحسب الحقبات والمناطق. وهذه العقائد هي: سياسة "فرق، تسد" والتلويح بـ "العصى والجزرة"، ثم منهج "الاحلال السكاني" أو "التطهير العرقي"..
ومن دون الخوض هنا في الجدل السياسي حول مدى تفوق المشروع الإسرائيلي أو حتمية فشله باعتبار تجارب التاريخ والشعوب، فهناك مفارقة نلحظها عند تقييم اتجاه المواجهة الدائرة حول تهويد أو عروبة القدس، تذكرنا بمقولة الرئيس الشهيد ياسر عرفات الذي كان يردد بأن "الشعب الفلسطيني هو الرقم الصعب في معادلة الصراع العربي الاسرائيلي". جوهر هذه المفارقة انه بينما يمكن أن تدّعي اسرائيل بانها نجحت في تطبيق ثلاثية عقيدتها الاستعمارية في تعاملها مع المواطنين العرب في اسرائيل ومع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، فإن سجلها في القدس ليس بالامتياز نفسه، بل انه يبدو معاكساً. وهذا يعود ليس فقط الى مركزية القدس الروحية الكونية، وتمسك جميع الاطراف صاحبة الشأن بها، من يهود ومسلمين ومسيحيين، وكذلك من مستعمرين واصلانيين، بل هو يجسد التقاء عناصر نضالية وظروف مادية اجازت هذا التميز والابداع والتماسك في اداء القدس العربية أمام ضغوطات جبروت النظام الإسرائيلي. ولو أمكن اثبات ذلك، فهذه الحالة الخاصة تدعو لشيء من التفاؤل، على الأقل في المنظور البعيد للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي.
لا تفرقة بين فلسطيني في القدس ولا سيادة اسرائيلية فيها
قد يصدق فعلاً الرئيس الأمريكي ترامب بأنه في "إزالة القدس عن طاولة التفاوض" من خلال قرار اعترافه بـ"أورشليم" عاصمة لإسرائيل، فهو جعلها بمثابة أية عاصمة عالمية أو أية مدينة اسرائيلية. لكنه بدى واضحا من الردود الفلسطينية والعالمية انه في هذا الاجراء فربما جعل ترامب القدس هي "الطاولة ذاتها"، كما علق أحد المسؤولين الفلسطينيين. ولكي يتحول وهم ترامب (والقادة الاسرائيليين) الى حقيقة أو أمر واقع فلا بد من تطبيع أوضاع السكان الفلسطينيين الذين يشكلون أكثر من ثلث سكان المدينة بشطريها الشرقي والغربي، ودمجهم في حياة المدينة ومواردها وخططها، حتى لو صورياً فقط. و يمكن المجازفة هنا بالإقرار بأن اسرائيل سعت ــ ونجحت الى حد كبير ــ لتفتيت الشعب الفلسطيني بين الشتات والوطن، بين المواطن في دولة اسرائيل والمواطن في لا - دولة فلسطين، بين غزة والضفة، وبين حماس وفتح، بين المعارض والرافض للتسوية مع اسرائيل والملتزم بالسعي للسلام بالوسائل السياسية، بين المقاومة والممانعة.
القدس: كيف تُبنى العاصمة الإسرائيليّة؟
09-12-2017
لكن، وكما أظهرت المواجهات المتكررة في القدس منذ العصيان المدني الواسع في اعقاب عملية قتل الطفل أبو خضير عام 2014، مرورا بهبات الطعن والدهس الفردية 2015 -2016، وصولاً إلى التعبئة الجماهيرية الواسعة في عام 2017 التي نجحت في ازالة البوابات والكاميرات عند الحرم الشريف، فأن اسرائيل فشلت تماماً في تفرقة المقدسيين أو ترويضهم أو منعهم من المقاومة. وما يؤكد صلابة الموقف الفلسطيني في القدس، في ظل غياب قيادة محلية متوافق عليها أو متواجدة ميدانياً، أنه على الرغم من كل الإغراءات الإسرائيلية والمنافع المحتملة من مشاركة الفلسطينيين في القدس في الانتخابات المحلية الاسرائيلية القادمة عام 2018 في القدس، كناخبين أو مرشحين أو قوى سياسية محلية مؤثرة، فقد تمسك المقدسيون بالموقف الوطني الثابت منذ أول يوم للاحتلال، بعدم شرعنة بلدية القدس أو النظام السياسي الاسرائيلي، حتى وإن كانوا مجبرين على تسديد ضرائب البلدية ورسومها وغراماتها العديدة لضمان الاقامة الدائمة التي تحق لهم. هنا أول مشهد تكسر فيه القدس الفلسطينية قاعدة اللعبة وتقف رقماً صعباً في المعادلة التهويدية الاستعمارية.
العصا الإسرائيلي شغال في القدس، لكن أين الجزرة؟
منذ اندلاع أول المواجهات الفلسطينية - الإسرائيلية في القدس عام 2014، فأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تتقلب بين فترات من العنف والتوتر من جهة وفترات الهدنة و"التعايش الظاهر" بين الفريقين من جهة ثانية. ونظراً للحدود القانونية التي يجب على إسرائيل احترامها في تعاملها مع احتجاجات "السكان الدائمين" الفلسطينيين في القدس، فإن سياستها تجاههم أخذت في السنوات الأخيرة منحى "قانوني /اجرائي" ذكي وقاسي، من خلال تشديد قبضة الشرطة في توزيع المخالفات على التجار والسائقين، وتنشيط جباة الضرائب ومفتشي التأمين الوطني، واقامة المتاريس الحديدية البشعة عند باب العامود، ودعم عملية إنشاء البؤر الاستيطانية في البلدة القديمة، ونشر خرافة "الحدائق التوراتية الوطنية" في سائر مناطق القدس الشرقية.. وغيرها من الخطوات الاستفزازية الهادئة التي تزيد الضغط على المقدسي وتذكّره يومياً بالثمن الباهظ لمقاومته هيمنة مصالح الدولة الاسرائيلية وأمنها ومستوطنيها.
برفض اغراء المشاركة في الانتخابات المحلية 2018 كترشيح وتصويت، يتمسك المقدسيون بالموقف الوطني الثابت منذ أول يوم للاحتلال، بعدم شرعنة بلدية القدس أو النظام السياسي الاسرائيلي، حتى وإن كانوا مجبرين على تسديد ضرائب البلدية ورسومها وغراماتها العديدة لضمان الاقامة الدائمة التي تحق لهم.
وكما في جميع مراحل تشييد المشروع الصهيوني، فإن التلويح بالعصا الغليظة لقوة إسرائيل العسكرية ودهائها الاستخباراتي كان دائما يترافق مع توأمة استعمارية، أي "مد الجزرة" للخصم لكي يروَّض ويفهم من هو الحاكم والتزامات المحكوم، هذا إذا سُمح له بالعيش. نرى تنفيذ سياسة العصا والجزرة في مواقف إسرائيل تجاه قطاع غزة وحماس، بقدر ما نشهده في التعامل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أو في العلاقة بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل و"دولتهم" في غزة. المعادلة واضحة: أما التهديد بالحرب، أو نزع السلاح والتزام الهدنة مقابل فك الحصار وإغاثة إنسانية ومعيشية. وفي الضفة الغربية، التقلب ذاته موجود، بين فترات ملاحقة واعتقالات في قلب مناطق السلطة وقمع التظاهرات وغيرها من الأعمال الاستعمارية الاعتيادية، وبين أخرى تتميز بالتسهيلات الاقتصادية أو المدنية والتخفيف الظاهري لحضور الاحتلال وانتهاج سياسات "جودة الحياة" والرفاهية الفردية.
وبمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، صدر في الصحيفة المحلية العربية إعلان عن بلدية "أورشليم القدس"، تهنئ به المسلمين بقدوم الشهر الفضيل! وفي التهنئة ذاتها فهي تبلغهم بالإجراءات الخاصة بالشهر التي اعتمدتها البلدية لتمرير فعاليات الشهر الدينية والتسويقية. وعوضا عن أن يتضمن الإعلان رزمة تسهيلات وتوجيهات تيسر الحياة للمواطنين، فإن غالبية بنوده بدأت بعبارات "يجب"، "يمنع"، "يحظر" وغيرها من التعليمات للتجار والسائقين والمصلين، حول ما هو مسموح وما هو ممنوع. فحتى عندما تحاول السلطات أن تتظاهر بأنها تراعي مشاعر الجميع، أو أنها ستقيم برامج مستقبلية ترصد لها مئات الملايين "لسد الفجوات بين المواطنين اليهود والعرب" (حسب ما جاء في بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخراً)، فإنها لم تستطع إخفاء الرؤية الحقيقية للدولة تجاه هؤلاء "المقيمين": لا بد من تذكيرهم دائما بالعصا، بحيث يبدو أنه لا يوجد لدى إسرائيل ما تقدمه للفلسطينيين في القدس، الذين قرروا البقاء تحت إدارة هذا الاحتلال. لا شوارع داخلية معبدة أو أرصفة، لا رخص بناء، لا خدمات جمع نفايات صحيحة، لا مدارس غير مندمجة في النظام التعليمي الإسرائيلي، لا مقابر إسلامية تمتد حول جدران البلدة القديمة، لا آذان يزعج المستوطنين، لا مساحات مخططة للتوسع السكاني الطبيعي، لا، لا، لا. وصلت الأمور إلى حد أن الشرطة فرضت غرامات مالية على عدد من المسحراتية المقدسيين، لأنهم أيقظوا الأطفال اليهود النائمين في مستوطنات أزقة البلدة القديمة!
وصلت الأمور إلى حد أن الشرطة فرضت غرامات مالية على عدد من المسحراتية المقدسيين، لأنهم أيقظوا الأطفال اليهود النائمين في مستوطنات أزقة البلدة القديمة!
.. هذا بينما تتوسع وتنمو الأحياء الاستيطانية اليهودية وتغذى بالمواصلات السهلة والمساحات العامة والشقق الفاخرة والخدمات كافة. إذاَ، من هذه الناحية أيضاً، فإن القدس تنقض القاعدة الاستعمارية وتحبطها لدرجة تجبر المحتل على استعراض العضلات دائماً، وتدحض كل ادعاءاته باحترام حقوق ومصالح جميع سكان "العاصمة"، وتعري منطقه التهويدي الخالص.
لا إحلال للعربي باليهودي
عندما صدر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني قبل شهرين نتائج التعداد السكاني الفلسطيني الذي يعتبر من أنجح التجارب الإحصائية الفلسطينية التي نفذت بحسب معايير دولية وبدرجة عالية نسبياً من الدقة والجودة، لفتت الانتباه بعض المعلومات الديموغرافية التي تحمل في طياتها أبعاداً هامة حول ميزان الصراع البشري الدائر بين اليهود والعرب في أرض فلسطين. هنا نستذكر الغاية الاستعمارية الاستيطانية الثابتة التي تعمل إسرائيل ليلاً نهاراً على تحقيقها، وهي جعل فلسطين "ارض بلا شعب لشعب بلا أرض".
بين النكبة والنكسة وغيرها من موجات التهجير أو الضغط لتفريغ مناطق معينة من سكانها الفلسطينيين، دأبت العقيدة الصهيونية على استبدال التواجد الفلسطيني وملكيته لأرضه بالاستيطان والتهويد. وكما نعلم من التجربة داخل إسرائيل منذ 1948، فإنها نجحت إلى حد كبير بتقليل عدد المواطنين العرب وبتركيز أكبر عدد ممكن منهم في أقل مساحة ممكنة، في قرى مزدحمة تحولت إلى مدن عشوائية وغيتوهات. والوضع يسير بالاتجاه نفسه في الضفة الغربية: 60 في المئة من الضفة يقع تحت الاحتلال المباشر، بين معسكرات ومستوطنات لا تترك للفلسطينيين حيزاً في أكثر من ثلث منطقة "ج"، أي تقاسم 50/50 بين ما هو متاح في الضفة للفلسطينيين وما هو متاح لإسرائيل. وقد وصلت الحالة الاستعمارية الى درجة أن السكان اليهود في الضفة والقدس معاً يساوون تقريبا ربع عدد السكان الفلسطينيين هناك، بينما يشكل العرب في إسرائيل أقل من 20 في المئة من سكان "الدولة".
لذا، فإن ما جاء في التعداد الفلسطيني من تقدير للعدد الإجمالي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس (4.8 مليون)، يضاف لهم حوالي 1.6 مليون عربي داخل إسرائيل، يعني أنه ما زال في فلسطين 6.4 مليون عربي مقابل تقريبا 6.6 مليون يهودي، مع توقع التوصل إلى توازن ديموغرافي ربما خلال عقد. في تحليل للأرقام السكانية الفلسطينية، يبدو أن التكاثر الطبيعي في الأراضي المحتلة لم يكن بالدرجة التي كانت متوقعة، حيث أن التقديرات لعدد السكان، السابقة على سنة التعداد، كانت أعلى ببضع مئات الآلاف عما جاء في نتائج التعداد. وهذا عائد ربما الى تأثير الحروب في غزة أو الهجرة الفلسطينية للعمل في الخارج، اضافة الى انخفاض نسبة الخصوبة. هذه النتيجة تدعو للقلق حيث أن أي تراجع للعنصر الديموغرافي العربي في الضفة أمام الزحف الاستعماري قد يشير إلى الانتصار التدريجي لسياسة الإحلال السكاني. وهذه مسألة يجب أن تبقى في قمة أولويات صنّاع القرار الفلسطيني: كيف نُبقي الشعب على أرضه، يعيش الحد الأدنى من الحياة الكريمة؟ كيف نجعل غزة مكاناً قابلاً للعيش الإنساني وتحول دون تحوله لمصدر للهجرة والتفريغ الطوعي؟
نجحت اسرائيل إلى حد كبير بتقليل عدد المواطنين العرب في أراضي 1948، وبتركيز أكبر عدد ممكن منهم في أقل مساحة ممكنة، في قرى مزدحمة تحولت إلى مدن عشوائية وغيتوهات.
في هذا السياق أيضاً، فإن القدس تظهر بصورة مغايرة عن مثيلاتها الفلسطينية وعن التوقع الشائع بأنه يتم تفريغه أمن سكانها الفلسطينيين بفضل جميع السياسات المضايقة للوجود العربي في المدينة. هناك تفاوت بين التقديرات الإسرائيلية والفلسطينية لعدد السكان الفلسطينيين من حملة الهوية الإسرائيلية داخل الجدار وخارجه، بين تقدير إسرائيلي بوجود حوالي 320 ألف فلسطيني داخل الجدار مقابل تقدير الإحصاء الفلسطيني بأن الرقم هو 281 ألفاً. هذا الاختلاف قد يعكس تباين في منهجية جمع البيانات والتصنيفات الجغرافية.. وغيرها من الجوانب التقنية. لكن ما يهم هنا حقيقتين. الأولى أن عدد الفلسطينيين المقيمين داخل المدينة المقدسة في تزايد مستمر بحسب جميع المصادر، وإن تفاوتت نسب النمو بين مصدر وآخر، أي أن التطهير العرقي لا يسير إلى الأمام، وأن العرب باتوا أكثر من 35 في المئة من سكان المدينة – وهذه نسبة لا يمكن تهجيرها لا في دفعة واحدة ولا بالاستنزاف.
فلسطين: منطق الأرض
31-03-2016
والحقيقة الثانية والأهم ربما، وهي أنه إذا افترضنا الدقة الإحصائية بالاتجاهات العامة التي ترسمها نتائج التعداد الفلسطيني (حتى مع تحفظ حول الرقم المحدد والتباين مع الرقم الإسرائيلي المرادف)، فإن نسبة تزايد عدد السكان المقيمين داخل الجدار تفوق التوقعات المسبقة للتعداد: بينما تزايد السكان الفلسطينيون داخل الجدار بين 2007 (سنة التعداد السابق) و2016 (بحسل التقديرات وقبل إجراء التعداد) بنسبة 2 في المئة سنويا (أي حوالي 5000 إنسان سنويا)، فإن التعداد سمح بتصحيح هذا التقدير، حيث نسبة الزيادة السكانية بين 2016 و2017 بلغت 17 ألفاً، إي 6 في المئة. إن هذا اللغز الاحصائي قد يتم تصحيحه في تقديرات سنوية قادمة، لكنه قد يدل على زيادة طبيعية مرتفعة (نسبة خصوبة) بالاضافة الى عودة بعض من سكن خارج الجدار في السنوات السابقة الى منازلهم في قلب المدينة، واختيارهم تركيز حياتهم داخل القدس بدل من محاولة الاحتفاظ بمسكن وعمل بين القدس ورام الله. وهذا يشهد ليس فقط على صمود المقدسيين أمام كل التحديات الوجودية، بل هو يقول أكثر من ذلك، حيث أن عدداً مِمَن كانوا مجبرين على الإقامة خارج الجدار لأسباب اقتصادية أو وظيفية، نجحوا في تثبيت أنفسهم داخل الجدار، كتعبير عن حقهم وإصرارهم على البقاء وعلى مقارعة الترحيل.
هكذا وعلى أكثر من جبهة، تقدم لنا القدس العربية الدروس الجديدة في مقاومة التهويد وتصعيب مساره، وتتحدى المنطق الاستعماري وأدواته البائسة المتقادمة التي لم تعد تخيف ولا تجدي.