العراق يطرد نوارسه

بين عمان وبيروت وأوروبا، وصولاً الى أقاصي الارض، الى نيوزيلندا وأطراف الأميركتين، تمتلئ المسافات بعراقيين لم يجدوا في أرض ولادتهم سبيلا لحياتهم، فراحوا يبحثون عن وطن بديل يمنحهم الامن والاستقرار اولا، وفرص الإبداع والخلق الجميل لمن شاء.ولم يعد من المستغرب اليوم ان نسمع عن مكتشف هنا ومبدع هناك يحمل الجنسية العراقية. فعالم ما خلف البحار يضم العديد من الشخصيات التي حطت رحالها هناك خلال العقدين
2012-09-19

احمد علاء

صحافي من العراق


شارك
سلامٌ من الأصقاع البعيدة

بين عمان وبيروت وأوروبا، وصولاً الى أقاصي الارض، الى نيوزيلندا وأطراف الأميركتين، تمتلئ المسافات بعراقيين لم يجدوا في أرض ولادتهم سبيلا لحياتهم، فراحوا يبحثون عن وطن بديل يمنحهم الامن والاستقرار اولا، وفرص الإبداع والخلق الجميل لمن شاء.
ولم يعد من المستغرب اليوم ان نسمع عن مكتشف هنا ومبدع هناك يحمل الجنسية العراقية. فعالم ما خلف البحار يضم العديد من الشخصيات التي حطت رحالها هناك خلال العقدين الاخيرين من القرن الماضي، هرباً من سياسات قمعية وممارسات دموية اودت بحياة الكثير من زملائهم. حتى بلغ عدد الاطباء العراقيين من ذوي الاختصاص في العاصمة البريطانية وحدها نحو 2000 طبيب. الا ان السنوات التي اعقبت سقوط نظام البعث بعد العام 2003 كانت حصيلتها هجرة اكبر عدد من الكفاءات، من علماء متخصصين في مجالات متعددة، وأكاديميين يحملون شهادات من جامعات عالمية، لعلنا نذكر هنا واحداً من ابرزهم، العالم الفلكي عبد العظيم السبتي، احد مؤسسي القبة الفلكية في بغداد والمرصد الفلكي.
وكانت الوجهة الاولى لأغلب الكفاءات العراقية في هذه الهجرة «الجديدة « هي العاصمة الاردنية عمان. كما كانت وجهة كبار ضباط القوة الجوية والقيادات العسكرية التي صقلتها تجارب الحرب مع دول الجوار الى سوريا. وكان لعمليات الاستهداف المباشر وتصعيد العنف الطائفي في سنوات ما بعد 2003 ، وخاصة العامين 2005 و2006، الاثر الكبير في أن تكون هجرة الكفاءات العراقية واقعاً عملياً ملموساً، في وقت لم تلتفت القيادات السياسية في البلد الى الامر باهتمام، للحد من تسربها وإيقاف عمليات «تنظيف» البلد من عقوله الغنية. وبعد 2003، كان يمكن مشاهدة طوابير العلماء العراقيين امام سفارات دول أوروبا في عمان للحصول على «فيزا» تمكنهم من دخول أراضي هذا البلد او ذاك. وفي كل الاحوال، اصبح الاردن نفسه أرضاً خصبة في احتضان الكفاءات العراقية، حتى زاد عدد الأكاديمين في الجامعات الاردنية على 700 استاذ جامعي، فيما يتراوح عدد الأطباء في مستشفياتها بين 2000 و2700 طبيب.
ترجع بعض التحليلات هجرة هؤلاء الى وجود «مخطط استخباراتي» لإفراغ البلد من كفاءاته، بينما ذهبت تحليلات أخرى الى ان الجماعات المسلحة التي انتشرت في البلد تسعى الى إيقاف عجلة اي تطور يمكن ان يحصل في العراق نكاية بالسلطة القائمة أو مناهضة لها. وقد اصبح العراق بالفعل اكثر بلدان المنطقة خسارة لطاقاته، ما أدى الى خراب منظومته العلمية والاكاديمية، وهو أمر خطير لبلد مثل العراق فقد أساسيات بنيته التحتية.
وجه العراق مجمل ميزانيته في السنوات السابقة نحو حماية مرافق الدولة وشخصياتها، التي ظلت برغم ذلك في مرمى الجماعات المسلحة. وقد أبعده عن تخصيص مبالغ للاستثمار في المجالات المختلفة، ومنها حماية وتنمية العقول العلمية. وعلاوة على التخصيص الصريح في الميزانية، فإن تفشي الفساد المالي والاداري في مؤسسات الدولة في السنوات الثماني الماضية، وعدم وجود تخطيط استراتيجي وتنموي، واستمرار الآليات السياسية تشتغل في اطارها الطائفي المحدود، الذي يلزم الكتل السياسية بتوزيع المناصب دينياً وإثنياً من دون الالتفات الى احترام الكفاءة... كل ذلك أدى الى تعطيل أية مزاعم عن تحول ديموقراطي، بل الى تعطيل إمكان قيام حكومة تكنوقراطية يقودها أصحاب الشهادات العليا مثلا من المشهود لهم بالكفاءة والاستقامة، لعلها تفلح حيث فشلت المحاصصة المكبَّلة تعريفاً، وهي الارض الخصبة للفساد على أية حال.
ولكن هل ما زال بعض هؤلاء في العراق؟ يبلغ عدد الذين غادروا نحو 3 ملايين عراقي، وفقاً لإحصائيات أعلنت عنها منظمات مدنية، جلهم من أصحاب الكفاءات العلمية والثقافية والفنية، أو هم ممن يقال لهم «النخبة».
ولم تشهد القطاعات العلمية والاكاديمية تطوراً يذكر خلال السنوات الماضية، كإنشاء مراكز بحثية علمية تكون من مهامها الاولى استيعاب الطاقات البشرية. ومع غياب أي تصور عام وطني للعراق، ولما يراد له أن يكون، وأي خيال سياسي يهتم بتقدير إمكاناته ودوره، ومع عدم قدرة مؤسسات الرقابة المالية على ملاحقة المال العام، والكشف عن المفسدين للحد من ضياع الاموال العراقية في قنوات غير معروفة... تكرست صعوبة خدمة الدولة للعلم والعلماء.
شهدت البلاد عقد مؤتمر للكفاءات العلمية العراقية من بلدان العالم كافة في مطلع العام 2010 كمحاولة من الحكومة لجذبهم وإعادتهم الى البلد. الا أن المؤسسات الحكومية ومجلس الوزراء لم يلتزما بتوصيات المؤتمر، ولم تتم متابعتها. وفي ظل غياب التشريعات القانونية التي تمنح أصحاب الكفاءات حقوقهم الضائعة منذ سنوات، ستبقى النداءات نحوهم للعودة معلقة. وقد تلخصت مطالبهم بضمان الحياة الكريمة من خلال توفير فرص العمل، وخلق المؤسسات الكفيلة بإدارة شؤونهم، فضلاً عن توفير السكن والنقل، ومنحهم تقديمات تساعدهم على الانطلاق من جديد في المجتمع العراقي، واعتبار سنوات الهجرة خدمة لأغراض الترفيع والراتب. الا ان هذه المطالب اصطدمت برفض وزارة المالية لعدم وجود التشريعات القانونية التي تدعم ذلك. وبرغم ان وزارة الصحة شهدت عودة اكثر من 800 طبيب عراقي في السنتين السابقتين، بعد ان وفرت الوزارة الدرجات الوظيفية لهم، الا ان وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وهي الوزارة الاكثر مسؤولية تجاه الكفاءات العراقية، لم يرجع من كوادرها العلمية الا 300 شخص، تمكنوا من العودة الى مزاولة عملهم. اما الباقون ممن ابدوا استعداداً، وهم مئات عدة، فلم يتمكنوا من العودة بسبب عدم وجود تخصيصات مالية للوزارة تكفل منحهم وظائف ثابتة.
ويبقى جانب آخر بات يشكل سيفاً قاطعاً امام عودة الكفاءات، يتلخص بانتشار الأحزاب الدينية التي تمتلك القدرة على اللعب بمقدرات الدولة، وتوظيف من تريد، الا انها تشترط الولاء لها. وهذا يخلق حالة من التصادم بين ما تمتلكه الشخصية العلمية من ثقافة جاءت بفعل تجارب وتفاعل مع مجتمعات مختلفة، وبين الاضطرار الى تبني أفكار مفروضة، أو التظاهر بذلك، من اجل الحصول على فرصة عمل. لم يهتم للموضوع مجلس النواب، كجهة تشريعية، كما ان مجلس الوزراء لم يكن متفاعلا بشكل حقيقي، برغم ما حمله الاعلام من تصريحات لبعض المسؤولين، وخاصة لرئيس الوزراء نوري المالكي خلال زياراته لبلدان العالم ومناشداته «للطاقات العراقية بالعودة لبناء البلاد». الا ان الواقع لم يعكس وجود رغبات حقيقية في الامانة العامة لمجلس الوزراء، فضلا عن وجود «لوبي» كبير يتميز بالجهل يحيط برئيس الوزراء، يخشى على نفسه من عودة هؤلاء. إن معالجة قضية الكفاءات العراقية المهاجرة يتطلب سعي الحكومة بشكل جاد الى تشكيل هيئة عليا تعمل على معالجة مشاكلهم بعد الاطلاع عليها من خلال لقائهم في بلدان المهجر، لتفحص الامكانيات المتوفرة في استحداث مراكز بحث علمية، وفي اتباع انظمة جديدة للتعامل معهم، مثل نظام التعاقد الذي تتعامل به اغلب دوائر الدولة، وخاصة وزارة التربية، فضلا عن بحث سبل إنجاز معاملاتهم في الدوائر الرسمية التي تحولت الى مؤسسات بيروقراطية يصعب الولوج اليها. عندها قد يمكن تسجيل نتيجة إيجابية في هذا الموضوع بالغ الاهمية، اللهم إن كان العنوان هو بناء العراق من جديد.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

النكتة العراقية تخرج من مداراتها السرية

احمد علاء 2013-02-25

للنكتة قوة نقدية كبيرة، تطال الاوضاع الاجتماعية والفكرية والسياسية. واذا كانت النكتة الاجتماعية اختزلت في إيضاح حمق الآخر وبلاهته، فإن النكتة الفكرية تعتمد على التناقض الحضاري بين الشعوب، وتتمحور حول...

العنف في العراق يتسلّل إلى داخل الأسرة

احمد علاء 2012-12-05

تراجع الاوضاع الامنية في العراق ألقى بظلاله على الحياة الاجتماعية، فانعكست تأثيراته على الحالة النفسية للعديد من المواطنين، ودخل العنف الاطار الاسري فسجلت مراكز الشرطة في العاصمة جرائم قتل داخل...