ليس بإمكان المرء في بغداد نقل أثاثه من حي إلى آخر من دون الحصول على موافقات الأجهزة الأمنية وعلى تواقيع أمراء الألوية والأفواج. اعتاد الأهالي هذه الإجراءات وغيرها، وأي محاولة للاحتجاج أو للاعتراض، تجعل صاحبها معرضا للاعتقال بموجب المادة 4 ("إرهاب") .
شوارع بغداد مليئة بالعسكر، فكأنها تتوجس حالة الخطر والخوف في كل لحظة. وتنتشر بين نقطة تفتيش ثابتة وأخرى الحواجز المتحركة، بدعوى "الأزمات الأمنية والسياسية"، أي دائماً، فتتأكد العسكرة التي طالما حلم العراقيون بالخلاص منها في عقود مضت.
وهكذا، لم ينتج التحول السياسي الذي جرى في العراق منذ عام 2003، تخلصاً من مشاهد الرعب والخوف وانتشار الجيش في المدن. أيام النظام السابق، كان الوضع السياسي يبدو مستقرا في ظاهره، رغم هشاشته الفعلية، أما المرحلة الراهنة فهي تعلن بصراحة، ومن خلال الانتشار الواسع للعسكر في شوارع المدن الرئيسة، اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية، وهو ما ينعكس على الحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على حد سواء. فصعوبة التنقل والوقت الطويل للتنقل الذي تتسبب به مئات الحواجز (وهي لم تتمكن من منع العمليات الإرهابية ولا التفجيرات وسط الناس)، يعطلان الأعمال، أو يجعلانها شاقة بالنسبة لمن لديه عمل، ومستحيلة أو تكاد، لمن يبحث عنه. وهو يهدر الوقت والإمكانات. ثم يعيش الناس في ظل مشاعر الاستثناء المستديم، ما يدفعهم الى تقليص كل نشاط ومبادرة، والاكتفاء بالضروري من الفعل الإنساني، أي البحث عن القوت. ويكشف ذلك حالة فقدان الثقة بين أطراف العملية السياسية التي تشكلت في عام 2003 بعد الاحتلال الأميركي للعراق، كما يؤكد مخاوف الأحزاب المتسلطة من انفجار ثورة غضب بين الناس، على غرار ما بدا ممكناً في تظاهرات اندلعت في العاصمة ومدن البلاد بدءاً من الخامس والعشرين من شباط/ فبراير من العام 2011، وكانت حينها بدعم من منظمات مدنية طالبت بتقديم الخدمات للمواطنين، ولم تهدأ مذاك محاولات التعبير عن المطالب العامة، ولكنها تقمع من قبل السلطة الحاكمة التي لم تستوعب الحالة الجديدة للتعبير عن الرأي فاستشاطت غضباً حين احتشد الناس في ساحة التحرير والساحات العامة في محافظات البلاد، مطالبين بالحصول على فرص عمل متكافئة، منددين بالفساد المستشري والذي يقضي على هذا الأمل. ذهبت تلك السلطة إلى ممارسة ما كانت تقوم به السلطة السالفة، فتوسعت في الاعتقالات بشكل أثار الإعلام ودفعه إلى اتخاذ موقف المدافع عن نفسه، ليحمي وجوده الجديد، والى رفض سياسة تكميم الأفواه. وأما الاغتيالات التي وقعت، فلا تزال الظنون في هوية مرتكبيها تتراوح بين الأطراف السياسية، ومنها من هو في السلطة، وبين التصفيات العشائرية، صراعاً على السلطة أو خدمة لمختلف أطرافها، حسب كل حادث وظرف، أو تقرباً منها، وتزلفاً إليها.
ومع ذلك تبقى الكثير من العمليات العسكرية غير مفهومة، وغير "ضرورية" لولا طغيان العقلية العسكرية لدى اصحاب السلطة. وربما باتت تهم الانتماء الى "القاعدة" أو الى حزب البعث المنحل شماعة أو طريقة تلجأ إليها السلطة لتنفيذ الاعتقالات، وتبريرها، كونها تتم في الغالب عشوائيا، ووفقا لرؤى قد تكون خاصة بقادة الفرق والضباط المتحكمين في مصائر أهالي المناطق التي يتمركزون بها، كما تتم أحياناً "وفقا للقانون"، من خلال مذكرات اعتقال تلفت أعدادها الكبيرة الأنظار. وهكذا، وبعد تسع سنوات من "التحول نحو الديمقراطية" في العراق، فما تزال العقلية البوليسية هي المسيطرة، وهي تجعل من يضطر لنقل أثاث بيته مشبوهاً حتى يثبت العكس!
مواضيع
ما تغير وما لم يتغير: بغداد تحت سيطرة العسكر
مقالات من العراق
فتاة كقصبة ال"بامبو"
"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...
العراق: ما تداعيات انخفاض أسعار النفط على الموازنة ورواتب الموظفين؟
يعتمد العراق بنسبة كبيرة على بيع النفط الخام في تأمين إيراداته السنوية ودفع الرواتب وبقية المستحقات الأخرى، فيما يواجه قطاع الزراعة الذي كان يمثل أحد .روافد الإيرادات في السابق، تدهورا...
القضاء المدني وصراع البقاء في العراق
المعارك القانونية حول تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق، كانت ولا تزال مستمرة منذ سنوات. لكن الأمر هذه المرة وصل الى حد أن أصدرت "نقابة المحامين العراقيين" بياناً، أعلنت فيه...
للكاتب نفسه
النكتة العراقية تخرج من مداراتها السرية
للنكتة قوة نقدية كبيرة، تطال الاوضاع الاجتماعية والفكرية والسياسية. واذا كانت النكتة الاجتماعية اختزلت في إيضاح حمق الآخر وبلاهته، فإن النكتة الفكرية تعتمد على التناقض الحضاري بين الشعوب، وتتمحور حول...
الهروب غرباً، بعيداً عن ظلال النخيل
قال عدنان سامي (27 عاما)، "مضت خمس سنوات وأنا أبحث عن عمل، يبدو أن تخصص الكيمياء الذي قضيت أربع سنوات أدرسه في جامعة بغداد، بات غير مرغوبا به في العراق،...
Violence in Iraq Affects Family Life, Too
The worsening security situation in Iraq is casting its shadow over the country’s social life. It is affecting the psychological state of many citizens, and has led to family violence....