في السنوات العشر الأخيرة، بدت تركيا نموذجا سياسيا واقتصاديا تَقتدي به، أو تدعو للاقتداء به، شرائح اجتماعية/سياسية في العالم العربي، ويلهج به العديد من المثقفين العرب. ويبرر ذلك ما يبدو من نجاح تركيا الباهر، سيما على الصعيد الاقتصادي، ولكن وأيضاً من تقديمها لنفسها كقوة سياسية إقليمية متمكنة من هامش من الاستقلال، بالرغم من انتمائها إلى حلف الناتو، ومن تمركز قواعد عسكرية أمريكية على أراضيها، ومن الاتفاقات المتعددة المبرمة مع إسرائيل... وكل ذلك لا يحجب وجود أسباب ودوافع للإعجاب والدعوة إلى الاقتداء، تقوم على اعتبارات سياسية وإيديولوجية وحتى مذهبية، كما على نوستالجيا «الامبرطورية الممكنة»، باعتبار تلك التي كانت قائمة حتى وقت ليس بالبعيد. وفي ذلك غض نظر عن جوانب عديدة من مسار الامبرطورية السالفة، تُحال ارادوياً الى «تفاصيل»، وغض نظر مرة ثانية عن مآلها النهائي، ثم ثالثاً عن انقطاع الزمن الواقع مع دولة السلاطين. والاهم من كل ذلك أنها نوستالجيا تعبّر عن الانكسار العربي أكثر من تعبيرها عن الإعجاب المفتكَر بما كان. السفير العربي
في المعجزة الاقتصادية
وصل الاقتصاد التركي المبني على الخارج إلى حدوده، وأصبحت ميزته نقطة ضعف للنظام، وأحد العوامل المفسرة لسياسة تركيا العربية. فسياسة «صفر مشاكل مع الجيران» حتى سنة 2010، ثم بعد ذلك الإحجام عن التدخل الميداني الصريح في الوضع السوري، يعودان بالأساس إلى الوضع الاقتصادي التركي. فهذا يعتمد بشكل رئيسي على الرساميل الخارجية، وخاصة على الدين من القطاع المصرفي الأجنبي، الذي لن يتوانى عن سحب أمواله إذا دخلت تركيا في لجة المشاكل الإقليمية.
عرفت تركيا منذ عام 2003، مع تولي أردوغان رئاسة الوزراء، نمواً اقتصاديا كبيراً (حوالي 8 في المئة) يتعدى بكثير النمو الاقتصادي الأوروبي، ونسب أكثر البلدان النامية. أصبحت تركيا مع دول BRICS (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب افريقيا)، إحدى أهم المحطات الاستثمارية للرساميل في المَحافظ المالية العالمية. أدت هذه الاستثمارات إلى ارتفاع معدل البورصة التركية إلى أعلى مستوياته عام 2011، كما أن مردود هذا المؤشر يُعدّ من أفضل المردودات في سوق الأسهم على الكرة الأرضية إذ ناهز 30 في المئة عام 2012.
تمت هذه المعجزة الاقتصادية التركية من خلال التمويل الخارجي، إذ تدفقت الرساميل على تركيا كاستثمارات وديون طويلة الأمد في البداية، وحتى عام 2007 . وجرى ذلك خاصة عبر ديون صندوق النقد الدولي، إذ أصبحت تركيا ثاني أكبر دولة مستدينة من الصندوق في العالم. وهذا كان مؤشر ثقة في تركيا من قبل الدول الغربية، حتى ذلك التاريخ على الأقل. إذا أضفنا إلى ذلك أن هذا النمو الاقتصادي ترافق مع انخفاض نسبة الدين العام للدخل القومي، نفهم ثقة الحكام الأتراك بأنفسهم، لدرجة أنه تراءى لهم أنهم يستطيعون دخول المنظومة الأوروبية الاقتصادية، لأنهم يحترمون معايير «ماستريخت» Maastricht الاقتصادية المتعلقة بالعجز السنوي العام الذي عليه ألا يتعدى 3 في المئة من الدخل القومي، وأن تكون نسبة الدين العام من الدخل أقل من 60 في المئة .
رساميل إقراض قصيرة الاجل
بالرغم من كل تلك المعطيات الإيجابية، لم تستفد تركيا من تدفق الأموال الأجنبية لبناء نموذج اقتصادي تنموي صلب ومتوازن، خاصة أنه بعد الأزمة العالمية سنة 2008، تحولت أكثر الرساميل الداخلة إلى تركيا إلى رساميل قصيرة المدى، أعطيت كقروض للمصارف التركية (حوالي 90 مليار دولار سنة 2011 أي 9 في المئة من الدخل القومي). وعمدت هذه المصارف المحلية بدورها إلى إقراض القطاع الخاص لشراء مواد استهلاكية، أكثرها مستورداً. فارتفع العجز في الميزانية التجارية الخارجية إلى 10 في المئة من الدخل القومي، وهي من أعلى المستويات في العالم. اصبحت دينامية النمو الاقتصادي مرهونة بارتفاع دين الأُسر والاستيراد. فازداد هذا الأخير بمعدل 40 في المئة، وهو ضعف ازدياد التصدير في السنوات الخمس الأخيرة. إن عجز الميزان التجاري بنيوي، وسابق على النمط الاقتصادي المستحدث الذي سرّع العجز نتيجة استيراد الطاقة وضعف القيمة المضافة في الصادرات.
وهذه حلقة مفرغة: دين، استهلاك، عجز تجاري ومن ثَمَّ دين. وهي وصلت إلى حدها مع انسحاب بعض الرساميل في أواخر السنة الماضية (4,80 مليار دولار)، فاضطر البنك المركزي إلى ضخ كميات من العملة الصعبة في النظام المصرفي للتعويض عن انخفاض القروض الخارجية. ولم يعد المخزون من العملات الصعبة الموجود لدى البنك المركزي إلا 70 في المئة من الديون الخارجية قصيرة المدى، وهي وصلت إلى 45 في المئة من الدخل القومي. وهذه النسبة من مخزون العملة الصعبة تعد أقل نسبة من الديون بين البلدان النامية في العالم. وانخفاض مستوى العملة الصعبة بهذا الشكل قد يعرِّض البلاد لاحقاً إلى مشكلة سيولة، بحسب ما قال صندوق النقد الدولي.
كما أن وضع الاقتصادي التركي الهش مرشح للتفاقم نتيجة انخفاض معدل النمو في تركيا وفي البلدان الأوروبية المستورِدة للبضائع التركية من جهة، ونتيجة اختفاء بعض الأسواق من جهة أخرى (الجيران وأفريقيا الشمالية).
مثال الارجنتين
هذا النموذج في النمو المعتمد على الليبرالية الاقتصادية، بحسب شروط ونصائح صندوق النقد الدولي، يلاقي أيضا حدوده في عدم التوازن وعدم المساواة: فـ 0,1 في المئة من المودعين في المصارف يملكون حوالي نصف الودائع بالعملة الأجنبية. والتفاوت في الدخل في تركيا هو، حسب مؤشر «جيني» (الذي يقيس اللامساواة على مستوى توزيع الدخل أو الاستهلاك الكلي)، هو الأعلى في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى أن معدل التضخم يصل إلى نسبة 8 في المئة تقريبا، وهو أيضا من أعلى النسب في العالم، ويؤثر بشكل سلبي على القوة الشرائية للطبقات المتوسطة والفقيرة.
من المؤكد أن تركيا ستعاني ابتداءً من الآن من مشاكل عانت منها أميركا اللاتينية في التسعينيات. فأكثر الدول حينئذ مولت نموها بالدين الخارجي عبر قروض من المصارف الأميركية، ما أدى إلى عجز كبير في ميزانيتها التجارية. وعند أول أزمة لم تعد تلك الدول تقدر على الاعتماد على الأموال الخارجية، ومرت بفترات اقتصادية صعبة دامت أكثر من 10 سنوات، أدت إلى إفلاس بعضها كالأرجنتين. الفارق الوحيد بين الوضع التركي الحالي وبلدان أميركا اللاتينية عندئذ، أن معظم دين تركيا هو من القطاع الخاص بينما كان دين أميركا اللاتينية في القطاع العام. لذلك يعتقد البعض أن الحكومة التركية قد تتمكن من إنقاذ القطاع الخاص، لأن مديونيتها منخفضة نسبياً (40 في المئة من الدخل القومي). إلا أن هذا الأمر مستبعدٌ، لأن تصنيف الدين الحكومي التركي الحالي من قبل مؤسسات التصنيف (Moody’s) لا يتعدى درجة BB ، أي أسوأ من العديد من الشركات الخاصة، مما يعني أن مديني تركيا حذرون الآن من الوضع التركي الاقتصادي.
مشاكل نمو وعدالة
يعاني حكم حزب «العدالة والتنمية» حاليا من مشاكل في:
ـ نموذج «التنمية»، فالدخل القومي للفرد التركي ليس أكثر من 10 في المئة من الدخل الفردي الإيراني، وهو لا يتعدى بنسبة 60 في المئة من الدخل الفردي اليوناني. وهذا النمو الاقتصادي له نقاط ضعف عديدة، أهمها الاعتماد على رساميل أجنبية قصيرة المدى.
ـ نموذج «العدالة»، إذ أن التفاوت الاجتماعي يتسع بينما تبقى البطالة والتضخم مرتفعين.
وفي هذا الإطار، فإن أي مشكلة عسكرية إقليمية قد تتورط فيها تركيا ستؤدي إلى انسحاب الرساميل الأجنبية وإلى انخفاض السياحة في آن واحد، مما سيضع البلد في موقف حرج، خاصة بالنسبة للنظام المصرفي، موقف لا خلاص منه إلا من خلال الرضوخ لصندوق النقد الدولي والمساعدة الخليجية، تماما كما حصل بالنسبة لمصر. إلا أنه في مثل هذه المرة، يتوجب ضخ مئات المليارات وليس بضعة مليارات من الدولارات. فيبقى سؤال أخير: هل دول الخليج مستعدة للذهاب إلى هذا الحد؟ وكيف يمكن لصندوق النقد الدولي أن يبرر تمويلا إضافيا؟