أجاب شيمون بيريز عن سؤال صحافي من BBC، مباشرة بعد «حرب تموز» (العدوان الاسرائيلي على لبنان في 2006)، قائلا انها آخر حرب من هذا النوع، وان الحروب الآتية هي حروب تكنولوجيا وغذاء، أي طائرات بدون طيار وتجويع...
لماذا الطائرة من دون طيار؟
لكل حضارة أدواتها العسكرية. فالألمان تميزوا بالدبابة ومدفعيتها، والعرب بالسيف، اما الصليبيون فكان سلاحهم الخيل والدرع الثقيل... ويبدو ان الحروب الحالية تعتمد بشكل أساسي على الطائرة بدون طيار، خاصة بما يتعلق بالهجوم على الدول النامية عامة والمتداعية خاصة.
أما لماذا قررت الدول الغربية تفضيل هذا السلاح على سواه، فيعود ذلك لأسباب عدة، موضوعية، تتعلق بالبنية الاقتصادية والاجتماعية لهذه الدول. فالدول الغربية متطورة تكنولوجيا في مجالي المعلوماتية والاتصالات، وتشكل هذه التكنولوجيا القاعدة الأساسية للطائرات. أما السبب الآخر فهو ديموغرافي، إذ ان شعوبها «متكهِّلة»، وعنصر الشباب لم يعد هو الأوفر في هرم الأعمار، بالإضافة الى اعتماد الحكومات على جيوش من جنسيات أو أصول أخرى، كالمغاربة في الجيش الفرنسي أو المكسيكيين في الجيش الأميركي. وفي هذه الحال، فالرغبة الذاتية بالتضحية من أجل «الأمة» منخفضة جداً لدى هؤلاء. أما السبب الأخير فهو اقتصادي. فلقد تعلم الأميركيون والإسرائيليون أن الاحتلال مكلف جداً، خاصة في هذا الظرف، حيث تخفَّض ميزانيات الدفاع في كل الدول الغربية نتيجة الديون الهائلة المتراكمة. فأميركا مثلا ستخفض ميزانية الدفاع فيها بنسبة الربع تقريباً هذه السنة (حوالي 200 مليار دولار). وفرنسا ستصل ميزانيتها الدفاعية الى 1,5 في المئة بدلا من 2,5 في المئة من الدخل القومي، بينما ستصل الميزانية الانكليزية الى 2 في المئة منه.
وللطائرة بدون طيار صفتان إيجابيتان: فمن جهة هناك كلفتها، وهي أقل بكثير من كلفة الوسائل الأخرى، ومن جهة أخرى فهي منتَجة في القطاع الخاص، وقد يديرها موظف من خارج المؤسسة العسكرية. وبما ان الليبرالية تخصخص كل شيء، فهذا محبذ من قبل صانعي القرار.
نتيجة كل ذلك، ارتفع حجم استعمال الـ«Drone « في فترة أوباما 8 أضعاف بالنسبة لفترة جورج بوش، وأدى استخدامها إلى مقتل 3300 شخص. وإذا أضفنا إلى كل ذلك أن القتلى من طرف واحد فقط، وأن التحايل على القانون الدولي أسهل بكثير في هذه الحالة، إذ لا يتم استعمال الجيوش، وأن الأهداف «إرهابية» فقط وليست دولاً، نفهم عندها السهولة التي تستخدم فيها الإدارة الأميركية، وعما قريب الإدارة الإسرائيلية هذا السلاح. ومن الواضح أن وضع حزب الله بشقه العسكري على لائحة الإرهاب يصب في هذه الخانة، إذ يبرر لإسرائيل استعمال هذه الوسيلة «دون خرق القانون الدولي»...
يبقى ان استعمال الـ Drone محصور جغرافيا بدول لا «تمتلك» سيادتها كأفغانستان وباكستان واليمن والصومال والسودان وسوريا ولبنان الخ... لكن الطائرات من دون طيار، وإن كانت تقتل، فهي لا تحسم أي معركة. لذلك وجب استعمال سلاح آخر وهو التجويع.
السلاح الاقتصادي: عدو من دون وجه
من الواضح ان السلاح الاقتصادي لا يمكن ان يستعمل إلا إذا ترافق مع موقف من «المجتمع الدولي»، ومع مشاركة المصارف الغربية بشكل كامل. وإيران الحالية وعراق صدام حسين أكبر مثالين على ذلك.
وقد سمحت العولمة والليبرالية وتشابك مصالح الدول، من خلال فتح الحدود الآن، وأكثر من أي وقت مضى، بإخضاع الحكومات وسياستها من خلال العزل الاقتصادي. فالدول التي خُصخِصت وفُتحت حدودها أو تلك التي عانت حروبا أهلية واستدانت بشدة، تكون خلال الأزمات أضعف تجاه الخارج والداخل، وتصبح مرتهنة بهذا الخارج في مسائل حيوية عديدة، أهمها المواد الغذائية والتكنولوجيا. ويتم إخضاع إرادات الدول عبر تسريع التضخم، وتطويق البلد، ومنع التكنولوجيا، ومراكمة الديون... وإذا أمكن استعمال الطائرات بدون طيار. وحين تضعف العملة يؤتى على «حصان أبيض» لتخليص البلد، باستدانة أكبر من الخارج. وهو هذا الخارج نفسه الذي أطيق الخناق سابقاً. ويكون هو الملاذ للخلاص بالاتفاق مع السلطات المحلية الجديدة وصندوق النقد الدولي وبلدان الخليج. والوصول إلى هذا المستوى من التبعية يحتم تفكيك لحمة المجتمعات مع الحفاظ على دولة مركزية شكلية «مركنتلية»، لا تؤمن أي لحمة بين مكونات المجتمع، كما هو حاصل الآن في المجتمعات العربية والافريقية، وكما ربما نرى بعد قليل في بعض دول أميركا اللاتينية.
حدود هذه الاستراتيجية
ليست هذه التدخلات سوى تكتيكات، قد تكون طويلة المدى، إلا إنها لا تستطيع أن تحسم الوضع استراتيجيا. بل، أكثر من ذلك، فقد ينقلب «السحر على الساحر». فالطائرات بدون طيار لا يمكن ان تحسم أي معركة وهي لا تستخدم الا للاغتيالات، كما في غزة وباكستان. وهي تؤدي في أكثر الأحيان إلى قتل الكثير من المدنيين. أما السيطرة الاقتصادية عبر الدَين، فسلاح ذي حدين، إذ قد يجبر الشعوب على رفض تسديد الديون، ووضع المصارف في مأزق كبير، كما حصل مع الأرجنتين في بداية القرن، خاصة ان الدول الغربية الكبرى هي الأكثر مديونية . هذا إضافة الى أن الفائض المالي الموجود في بعض الدول الصغيرة ليس بمنأى عن ردود فعل عسكرية من قبل هذه المجتمعات الفقيرة.
وأخيراً، فعدم ثبات المجتمعات العربية والإفريقية في أطر سياسية يعني بالضرورة ازدياد الخطر على الغرب على الأمد الطويل، إذ تصبح المواد الأولية غير مؤمنة عدا عن ارتفاع كلفة نقلها، كما حصل مثلا بالنسبة للنفط النيجيري والغاز المصري. كلام شيمون بيريز كان المقصود به أن يطمئن جمهوره أن إسرائيل تستطيع أن تنتصر من دون أن تُعرض جيشها أو شعبها للخطر، بل باعتماد المحاصرة الاقتصادية والتكنولوجيا. وهذا تصور معرض لأن يثبت خطأه عما قريب، خاصة في دولتين عربيتين كبيرتين هما مصر والعراق.