احتفل المغاربة بعيد المولد النبوي بحرارة. حضر الملك محمد السادس جلسة أمداح نبوية في مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، وعدّد المذيع خصال سبط الرسول والأسرة العلوية الحاكمة. نقل الحفل على التلفزيون. عرضت المواقع الإلكترونية عشرات الفيديوهات لاحتفالات الزوايا بمختلف مناطق المغرب بالمناسبة. انشد المتصوفون المغاربة بردة البصيري "يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم / ما سامني الدهر ضيماً واستجرت به إلا ونلت جواراً منه لم يُضَمِ"، ونظمت الزاوية البودشيشية لقاء التصوف السنوي.
أغاظت الاحتفالات قياديا في "حركة التوحيد والإصلاح" فوصف الزاوية بأنها معتقل للمجانين وشبهها بضريح "بويا عمر"، وهو ضريح تنفع بركته المرضى العقليين ويزوره مئات آلاف الأشخاص سنويا. ومع الزمن، صار الضريح سيء السمعة بسبب تقييد المرضى بالسلاسل لسنوات طويلة على أمل شفائهم. بل وطالب القيادي بضرورة إغلاق الزاوية و"فك أغلال آلاف المأسورين في الخرافات والأوهام". حينها رد حفيد شيخ الزاوية البودشيشية أن "السلفي يجهل الصوفي"، مضيفا أن "مريدي الزاوية لا يعبدون الشيخ، بل هذا الأخير هو أستاذ في تزكية النفوس"، واستغرب "كيف يعقل أن يكون ملتقى الزاوية مثل بويا عمر، وهو يعرف حضور ثلة من العلماء والجامعيين من مختلف القارات"، وأضاف أن الملتقى يُعد "محطة علمية تساهم في إصلاح الفرد والمجتمع، وبالتالي تحصينه وصيانته من الاستقطاب العَقدي والفكري المبني على الفكر التشددي والإلغائي للآخر".
نتيجة لهذا المنطق، يمكن لليبراليين واليساريين والقبليين المغاربة التعايش مع التصوف لبا وقشرة.
لإطفاء الحريق بين الإخوان والمتصوفة، خرج "التوحيد والاصلاح" وهو الجناح الدعوي لحزب "العدالة والتنمية" عن صمته ببيان يتبرأ فيه من تصريح القيادي المذكور، وأعلن أن "تدوينة أحد أعضائه ذات الصلة بالزاوية البودشيشية تصريحات فردية غير مسئولة، تتنافى مع منهج الحركة وخياراتها القائمة على التعاون على الخير".
الرجل، مثل الكثيرين، له قشرة إخوانية ولب سلفي، وهو متخاصم مع واقعه المغربي المتنوع والمتعدد. يتجاهل أن التدين المغربي يشبه جغرافية المغرب، فيه جبال وسهول وهضاب وليس ابن بيئة قاحلة موحدة السطح واللون.
وهو متأثر بالشيخ القرضاوي وحليفه احمد الريسوني الذي يرى أن "ذكرى المولد النبوي لم يرد في شأنها شيء من القرآن ولا من السنة، فليس لها في الدين حكم منصوص ولا عمل مخصوص، ولهذا لا يجوز تخصيصها بأي عبادة أو أي عمل تعبدي صرف، كصيام أو صلاة، أو أذكار مخصوصة معينة".
هذا القيادي وأشباهه عبء على جماعته وحزبها، "العدالة والتنمية". لذا ففي أول لقاء بالعضو المعني خاطبه رئيس الوزراء الإسلامي "أين يكون عقلك حين تكتب أشياء لا يتقبلها عقل؟ فكر على الأقل فيما تجلبه تصريحاتك على مستقبل الحركة والحزب". رد الرجل "لقد اعتذرت، كنت منفعلا".
حتى بنكيران يعرف أن الاعتذار ليس تغييرا في الموقف. والتصريحات تكشف الأصل ما قبل البراغماتية. الأصل قائم وسيخرج للعلن في أول فرصة.
هذه التصريحات تهدد مستقبل المغرب أيضا. فمنذ اشتعال نار الطائفية، عمدت مختلف الاطياف المغربية للتأكيد على الوحدة الدينية: صمت شيوخ السلفية لتجنب الاستفزاز. خفّض الاخوان من نقدهم. باركت الزوايا دستور 2011... وهكذا صار المشهد هادئا بفضل حس براغماتي عالي. كان كل طرف يضغط على متطرفي فصيله بغرض حماية الوطن من اية هزة، فموارد المغرب قليلة وبالكاد تكفي للبناء ولا داعي للهدم.
لكن هناك من يرى في استقرار المغرب فرصة لسحق ما يسميه "البدع". لذا، ولتوفير زخم لموقف السلفي المضطر للاعتذار، خرج سلفيون صغار متحررون من عبء الانتماء التنظيمي لتقريع المحتفلين بالمولد والسخرية من ترديد الصوفية أح وآه. مع إرفاق السخرية بأسئلة استنكارية من قبيل: هل هذا التدخل الرسمي في الزوايا هو لخدمة الدين والتدين؟ وهل من المعقول أن نرى السفير الأمريكي يقاسم المسلمين البودشيشيين احتفالاتهم مرفوقا بزوجته وأعوانه وحراسه؟ وكيف يمكننا أن نقرأ التحالف الرأسمالي ــ الصوفي؟
وتزاحم كتاب رأي كثيرون بلحى طويلة وشوارب حليقة ليدينوا الزوايا لأنها حادت عن مقاصد الأسلاف ويلوموها على خدمة السياسة. يعترض السلفيون على فصل الدين عن الدولة ويعترضون على ممارسة الزوايا للسياسة. وقد ذهب سلفي (يدعى القباج) إلى مطالبة شيخ الزاوية البودشيشية المتفرغ للعبادة بالتوبة وخاطبه قائلا "أنا متأكد أنك تعلم يقينا أن ما يجري هذه الأيام في زاويتك لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم... وما يردده مريدوك وما يعتقدونه مضر بك وبهم... هذه النصيحة الخالصة أنفع لك مما يريده منك النافذون الذين يخدمون بك أجندات معروفة".
يعتبر السلفيون الوهابيون ترديد بردة البصيري تقديسا لبشر ويروْن أشباح البدع حولهم ويشتكون من كثرة الضَّلالُ العَقَديُّ والخضوع لشيوخِ الطُّرُق والاستغاثةُ بالموتى. بسبب هذا الموقف يوجد السلفيون في فم مدفع المتصوفة والفقهاء. وقد رد أحد الفقهاء بسؤال استنكاري طويل "هل الاحتفال من خلال الاجتماع في مسجد أو بيت لسماع المواعظ والمديح وتناول المباحات، وتزيّن أبنائنا يوم المولد والتوسعة عليهم بالمناسبة، أمور تدخل في العبادة لرسول الله وتأليهه؟". وفي الاتجاه نفسه أعلن شيعة مغاربة مساندتهم للزاوية البودشيشية ضد السلفيين.
بعد هذا، هل الاحتفال بالمولد حلال أم حرام؟ هذا سؤال غير مهم. الخطير هو أن الجدل حول التعييد يكشف مدى اختراق الخطاب المتشدد للحقل الديني. صحيح أن السلفية الوهابية ضعيفة في المغرب، لكن مجرد النقاش حول التعييد يعطيها موطئ قدم. وهذا سيقلق كثيرا حارس الأمن الروحي للمغاربة، وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية المتصوف والمؤرخ والروائي الذي شغله المنصب عن الكتابة.
السؤال المهم هو: ما هي فوائد الاحتفال؟
إنها تأكيد هوية دينية مغربية متنوعة تشمل الزوايا والفقه المالكي وتعزيز الملكية بحب الرسول وطبعا صد دعاوي الوهابيين والسلفيين والإخوان. خاصة في هذه اللحظة التي يتعرض فيها نموذج التدين المغربي للقصف ويقاوم بسلوكاته الراسخة في البوادي أكثر من المدن.
رغم أنه في المدن تكثر واضعات النقاب وينتقل التشدد من نشطاء الأحزاب الإسلامية إلى العامة، وهذا تحول خطير. أما في قرى جنوبية حيث النساء ضعف الرجال نجد الاحتفال بالمولد يوازي عيد الأضحى، يكثر التزاور والحفلات في أضرحة الشرفاء وحولها.. هناك حب للنبي، وفي جل المنازل نجد اسمي علي وفاطمة. هنا لا نقاش حول شرعية الاحتفال، واحتفال النسوة اشد من احتفال الرجال. المزعج في القرية هو رفع الحكومة لأسعار السكر، وهو الهدية الرئيسية للنساء في زيارات الأعياد.
نموذج التدين المغربي يتعرض لقصف ويقاوم بسلوكاته الراسخة. فبعد أسبوع من المولد تم في طنجة تنظيم موكب "سابع المولد"، واستمرت الاحتفالات بصوت الفرق الكناوية تتغنى بالنبي والشرفاء وتردد في شوارع مدينة الصويرة بصوت خلاب "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"...