في ساحة شهيرة في قلب الدار البيضاء، يتجمع عشرات الشباب يرفعون شعارات تندد بالغلاء والفساد ويطالبون بالتغيير وإسقاط النظام... يصل مراسل تلفزيوني ميداني لينجز ريبورتاجاً عن الشباب الثائر. يسأل المراسل بعض الواقفين في الساحة: لماذا أنت هنا؟ ما رأيك في «حركة عشرين فبراير»؟
من اللحظة الأولى يكتشف سطحية الأجوبة وتشابهها. حينها يدرك أن ما يصوره لن يتجاوز ما هو سائد ومستهلك في الإعلام. يرفض المراسل أن يخضع لطلب القناة وهو العودة بفيديو مدته دقيقة ونصف دقيقة كل يوم من الشارع واعتبار ذلك استقصاءً للواقع ونقلا للحقيقة.
في غمرة وجع التكرار في مهنته، ينتبه المراسل لخصوصية كهل مشرد في الساحة. يسأله عن اسمه فيذكر رقم 404. يعيش الكهل اللحظة بشكل مختلف. يتحدث بدقة عن إضراب الدار البيضاء سنة 1981. الزمن توقف هناك بالنسبة له. حينها رأى الرصاص والجثث، ووجد نفسه مع آخرين في حوض سباحة جاف، ورجُل امن يستمتع بعطشهم، يرشهم بالماء ويملأون أحذيتهم ليشربوا. أما المعتقلون الذين اعتقلوا حفاة فلا يشربون.
يقرر المراسل تجاهل تعليمات هيئة تحرير القناة ويتبع الكهل في هلوساته. هكذا يربط هشام العسري في فيلمه «هم الكلاب» بين 1981 و2011. بين إضراب الدار البيضاء الدموي ونشأة حركة 20 فبراير 2011 والتي تحل ذكراها الثالثة اليوم. ترصد الكاميرا السياسية للمخرج الشاب اللحظة التاريخية. في مشاهدتي الأولى لهذا الفيلم الغني سوسيولوجياً تتبعت الكهل المجهول، في المشاهدة الثانية تتبعت الفضاءات التي يمر بها ومدى تفكير المراسل في مهنته.
الكهل 404 ليس بطلا، بل هو نقيض البطل التقليدي. إنسان مقهور تجرأ على الحلم فتوقف وعيه مع الصدمة. لا يتجشم عناء الوسامة لكنه فاضح للخبايا بأسئلته المغموسة بالبلاهة. منذ سنوات يسأل عن هويته وأولاده ولم يأخذه احد على محمل الجد، إلى أن ترك المراسل سطحية الجماعة الشابة وتعقب عمق الكهل الذي يحمل على كتفيه تاريخاً مريراً. فلقد صممت فترة سبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي وعي جيل كامل من المغاربة. شهدت تلك الفترة ميلاد حلم التغيير وإجهاضه. مرحلة تراجيدية سيمتد مفعولها في الوعي. شخصياً تأثرت بالمدرسين الذين عاشوها ولقحوا تلامذتهم بوعي شقي.
لهذا ربط فيلم «هم الكلاب» بين 1981 و2011. فخلال ثلاثين سنة لم يفتر أمل المغاربة في غد أفضل. وقد قدم الممثل حسن باديدا أداءً هو مزيج من اليأس والأمل، فهو يبحث عن ذاته لكنه واثق أنهم «هم الكلاب لا نحن». وهذا وضع يتماهى معه المتفرج اليائس، والذي ينظر للشبان المحتجين في الشارع بشك، لكن يأمل أن يحققوا له معجزة.
هل ستحدث المعجزة؟
لا يقدم المخرج جواباً، لكنه يأخذنا في رحلة أخرى وهو يطارد الكهل. فالمطاردة ليست موضوع الفيلم بل أسلوب المخرج أيضاً. فهو في لحاقه بالرجل يسمح لنا برحلة في الدار البيضاء من الواجهة المضاءة اللامعة إلى الخلفية. تقوم الكاميرا بمسح للمجتمع وللمدينة. نكتشف فضاءات عشوائية بشكل رهيب، فيها تلوث صوتي، شاطئ فيه مزبلة ويصب فيه مجرى صرف صحي وتلعب فيه مئات الكلاب. يقف الكهل ليبول على جدار كتب عليه «ممنوع البول هنا يا حمار». يبول.
نكتشف عنف الشوارع. تندلع نزاعات لفظية بين فردين، تتخللها كلمات ساقطة، فيصير النزاع يدوياً، يتدخل فيه آخرون فيصير كارثة. خلاف صغير على ركن سيارة يستدعي اقتتالا بين أفراد الشعب.
غضب غضب. الغضب الذي لا يأخذ شكلاً سياسياً عقلانياً يصير مدمراً. غضب لا يتخذ شكلاً سياسياً بسبب الجهل. يصعب قبول وصف أفراد الشعب بالجهل لكن تلك هي الكلمة المناسبة. هذا البشر الخام لن ينجز لا ثورة ولا تغيير.
يسأل المراسل مومساً التقطها من علبة ليل: ما رأيك في حركة عشرين فبراير؟
أجابت: إنها مثل البقرة المجنونة. إنها خلفية الثوار. مجتمع يتناحر افراده لن يحقق ثورة. حال النخبة ليس أفضل. هذا ما نكتشفه حين يقصد الكهل صديقاً قديماً صار صحافياً ليسأله عن هويته وأولاده. يدخل مقر الجريدة وتقوده السكرتيرة إلى مكتب الصديق. في الممر الطويل يضع المخرج الكاميرا على مستوى ارتفاع مؤخرة السكرتيرة الضخمة، وهذا تعبير عن دور ومكانة هذا العضو المبجل في الإعلام. في اللقاء يسأل الكهل صديقه: «هل صحيح قلبت المعطف؟».
هذا هو الخط الثالث في هذه المقاربة السوسيولوجية للفيلم. وفيها نتعرف على وضع الإعلام ودوره. فالمراسل التلفزيوني يطارد موضوعه ولا يحصل عليه جاهزاً. وهو يبحث عن تجاوز التغطية السطحية للحظة. يدرك أن المادة الإخبارية الجاهزة ملغومة وأن المواضع المهمة ليست معطاة.
يقدم الفيلم شريطاً صوتياً منقولاً عن القنوات الفضائية. ويخبرنا الشريط عن احتجاج الشعوب وتبديل الحكومات ثم سقوط رؤوس الأنظمة... وهذا ما يضع الفيلم في سياق سياسي عام. الغريب أن كثافة الصور والخطابات التي تتدفق على المتفرج تصير من فرط الكثرة معرقلة للفهم بدل أن تساعد عليه. لا يميز المتلقي الحقيقة والتضليل. لا يعرف هل يتفاءل أم يخاف.
الجديد في كل هذا هو أن السياسة استرجعت وزنها في السنوات الثلاث الأخيرة. لقد انتقمت السياسة بعد تعويمها لسنوات بالرياضة والفتاوى والمسلسلات المكسيكية والتركية... والسياسة وحدها تساعد الكهل في مساره. ففي لحظة تعب من البحث عن هوية الكهل 404 يستنجد مساعد المراسل بأحد معارفه في وزارة الداخلية. وبسرعة ترد أمّ الوزارات التي تملك أم الحقائق.
هكذا يقدم فيلم «هم الكلاب» سينما سياسية فاضحة، ساخرة، حتى أني صرخت في منتصف الفيلم: «يا إلهي! لقد عثر المخرج على الوصفة التي تجمع الأسلوب الفني الراقي مع المزاج الشعبي الكوميدي، ذاك الذي يضحك حتى من مصائبه».