"إن حكومتك الجديدة ليست إسلامية بما فيه الكفاية". ردا على هذا النقد الذي جاء من أطراف متناقضة، روى رئيس الوزراء المغربي عبد الإله بنكيران النكتة التالية: "يحكى أن رجلا قال للناس في المسجد أن صوته جيد ويريد أن يؤذن في المسجد. قالوا له: تفضل. صعد المؤذنة وأذن بصوت شنيع. وعندما نزل سأله الناس: ما هذا الصوت الشنيع؟
فقال بأنه دخل الحمام وغنى وقد أعجبه صوته، وقد طالب الناس أن يبنوا له حماما فوق المئذنة، حينذاك سيسمعون صوته الجميل وسيستمتعون بآذانه.
كان الإسلاميون يغنون في الحمام المغربي قبل الربيع العربي/الأمازيغي. لكن بعد فوزهم في الانتخابات، صاروا مضطرين للغناء فوق الصومعة مكشوفين. طبعا في الحمام يتساوى صوت فيروز وصوت هيفاء وهبي. لكن خارج الحمام الأمر مختلف. وهذا نقد ذاتي ساخر، واعترافا من بنكيران بوعيه بلون وحجم حكومته "الإسلامية". وهو الذي استنكر ذات يوم ملابس صحفية "غير محتشمة" في البرلمان.
مرحليا يتحول بنكيران من زعيم عقائدي إلى زعيم براغماتي. يسخر من الذين طالبوه بوضع مثالي قبل قبول المنصب. يرى أن عليه العمل في الظروف القائمة. وقد زاد في أسعار مواد كثيرة. وزاد في الضرائب لينقذ ميزانية الدولة من الإفلاس. ولتأمين نفسه، يشيد بنكيران بالملك في كل مناسبة حتى نسبت له صفحة فايسبوكية ساخرة تفسير "استقرار الأرض في مدارها بفضل حكمة جلالة الملك".
بذلك يحاول بنكيران قطع الطريق على خصومه الذين يحاولون توتير علاقته بالقصر. وهم ينتقدون بنكيران بمنطق غريب، يتساءلون:
ماذا كسب حزب العدالة والتنمية من الحكومة الثانية؟ ثم يجيبون أنفسهم: إن الحزب هو الخاسر لأن الحكومة ليست إسلامية.
هؤلاء الذين تمنوا سقوط الإسلاميين، طالبوا بمنع حزب العدالة والتنمية. كيف يتباكون لأن عدوهم خسر؟ عليهم أن يصفقوا وقد تحققت أمنيتهم. أية ضبابية في الرؤية. أمام انزلاق حجاجي مثل هذا يستخدم بنكيران "التاوية" (taoïsme ) وهي فلسفة صينية شعارها الفعل عن طريق عدم الفعل. فهو لا يرد ويترك خصومه ينكشفون أمام الرأي العام. وهذه إستراتيجية ذات مردود سياسي هائل على المدى الطويل.
لا يوجد موقف أغرب من موقف المتباكين إلا ذاك الذي أعلنه واحد من أنصار بنكيران سابقا. قال إنه كان منتميا لحزب العدالة والتنمية لكن الحزب خيّب أمله. فماذا فعل؟ رحل إلى سوريا ليجاهد. يبدو أن الإسلاميين المحبطين في بلدانهم يجدون فردوسا دمويا في سوريا. يخططون ليقيموا حكومة إسلامية صافية في دمشق. أما في المغرب "فمن يحتاج أصلا حكومة إسلامية صافية"؟ لا أحد. حتى أن نكتة رائجة هنا تشرّح الوضع أفضل من أي تحليل. تحكي النكتة أن المغاربة شاركوا في استفتاء: هل تريدون حكومة إسلامية أم علمانية؟ صوتوا لصالح الدولة الإسلامية ثم ذهبوا للعيش في الدولة العلمانية.
للتلاؤم مع المزاج الزئبقي للشارع يردد اتباع بنكيران بصوت مرتفع: لسنا حزبا إسلاميا نحن حزب سياسي ودولتنا إسلامية. ولم ننتم قط لجماعة الإخوان المسلمين.
بذلك يقدمون خطابا يحاول تجريد خصومهم من كل سلاح. نصح قيادي من حزب العدالة والتنمية نفسه "بالحذر من الاستهانة بالخصم لان الصراع بين قوى الإصلاح والدعاة المطالبين به، وبين خصومه والرافضين له طريقه ليست سالكة، ولا هي مفروشة بالورود".
هذه بوادر نقد ذاتي. لقد اكتشف الإخوان المغاربة قبل غيرهم أنهم لا يملكون الحقيقة، أنهم جزء من البلد وليسوا كل البلد. وقد عبر التغيير الحكومي عن فهم تام لهذا. في الحكومة الحالية تلاشت روح الفريق. صارت حكومة مشتتة من أربعين وزيرا ناقص واحد. كل وزير يعمل بوتيرته ويرأس نفسه ويطور مهاراته الفردية في التعامل مع الإعلام. أرخى رئيس الوزراء قبضته، بلع لسانه. حتى صارت الحكومة أشبه بمنتخب بدون مدرب. المهم الا يُتهم بنكيران بالهيمنة.
في المغرب مختبر عجيب للإسلاميين الذين أحنوا رؤوسهم لتمر عاصفة الربيع العربي/الأمازيغي وهم يشقون طريقهم بخطوات تكتيكية محسوبة. حاليا، قلت فتاواهم وصاروا يحتمون بالمؤسسة الدينية الرسمية في القضايا الخلافية مثل تزويج البنات في عمر أقل من ثمانية عشر سنة. إن جماعة الإخوان المسلمين تتغيّر أكثر مما تُغير.
في العمق، وبعد ثلاث سنوات، يبدو المشهد السياسي المغربي بلا تغيير حقيقي. يوجد هدوء مريب. البنى العميقة للسلطة لم تُمس. هنا مغرب الاستقرار الشامل. كل شيء بخير وهادئ جدا، والمخيف أنه يوجد إحساس أن الحكومة مشلولة أو حتى غير موجودة. حركة 20 فبراير لم يعد يُسمع لها خبر.
بم يفسر ذلك؟
يدرك الناس بفطرتهم أن الصراعات مكلفة. تؤثر الحرب والسلام على الاقتصاد. بتجنبه للصراعات، فإن المغرب يدبّر أموره بموارد قليلة، في حين أن بلدانا تملك موارد أسطورية تتدهور لأن النزاعات تبدد الثروة المادية والقيمية للشعوب. في المغرب من لم يعجبه عشيق أخته لا يقتلها باسم الشرف، فقط يقاطعها. تنطبق هذه القاعدة الاجتماعية على السياسة أيضا.
النظام الملكي ليس هو الملك فقط. طبعا شخص الملك مركزي، لكنه ليس وحده، فهناك مصالح اقتصادية وأفكار ومعتقدات وتقاليد مقدسة وعلاقات اجتماعية تشكلت خلال زمن طويل فتصلبت. وهكذا فبقاء الإسلاميين في الحكومة مضمون.
موقف السعودية من الاخوان عامل آخر ليشفوا من الغناء في الحمام. لم يكن هذا الشفاء أو بوادره على الأقل سهلا، لكن ستكون له نتائج. سيخفضون سقف توقعاتهم من أنفسهم. سيزيد ولاؤهم للمشاكل المحلية. سيقدمون الحساب للداخل أساسا... لم يستطع العلمانيون وكل خصوم الإخوان الوصول لهذا بجهودهم الخاصة!