وكأن ممثلي تلك القوى العظمى، ومعهم الإعلام، وعموم الناس أيضاً، قد اكتشفوا لتوهم أن هناك مئات ألوف الشباب الأفارقة السود، رجالاً ونساء وأحياناً أطفالاً، يتركون بلادهم ويهيمون في الصحاري والبحار، يموت من يموت منهم، ويلقى الأحياء الباقون معاملة تجعلهم يتمنّون الموت، لتتمكن قلة صغيرة لا يُعتد بها من "العبور" الى أوروبا، فتبدأ هناك معاناة أخرى "ألطف"، مقارنة بما يقع لرفاق طريقهم ممن علقوا في شباك خفر السواحل في بلدان شمال أفريقيا، وبالأخص منها ليبيا، نقطة التجمع الأساسية لمهاجري كل البلدان التي تقع جنوب الصحراء الكبرى، علاوة على السودان وأريتريا وأثيوبيا.
صَوَّرت القناة الاخبارية الأميركيةCNN سوقاً للنخاسة في ليبيا، تباع فيه الكائنات البشرية تلك وفق قانون المزاد. قامت الدنيا ولم تقعد، والكل يكذب بوجه الكل صارخاً "يا للعار"! مع أنه سبق هذا الريبورتاج عشرات سواه، مصوّرة هي الأخرى ولكنها ليست بقوة نفوذ الشبكة الأميركية. وسبقته تقارير لا حصر لها، وبعضها من هيئات رسمية تابعة لمنظمات الامم المتحدة المعنية بالشأن، ومئات المقالات الصحافية بكل اللغات.
اقرأ أيضاً: المشّاؤون الأفارقة عالقون على باب الجنّة
هذا أولاً.
الأهم، أن حالة الاستعباد تلك - وهي ممارسة همجية بالطبع - لم تولد من صدفة أو من لا مكان. بل أن قرارات الاتحاد الاوروبي الخاصة بتدابير مكافحة الهجرة اليها، والتي تتالت منذ عقدين من الزمن (وليست وليدة الطفرة الأخيرة) قد تطورت في همجيتها هي الأخرى، وقررت تصعيد "التعاون" مع بلدان المهاجرين والعبور، لإيكالها بصدّهم. هناك عدة مواثيق موقعة بين أوروبا وتلك البلدان، وهناك عشرات الخطط والأجهزة الناشئة عنها، و"فرونتكس" ليس إلاّ الأخير بينها (تأسست في 2004-2007، وكما يدل اسمها الذي يدغم frontières extérieures الفرنسية، فهي "الوكالة الاوروبية لإدارة التعاون العملياتي في الحدود الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الاوروبي"). لقد جرى تدريب قوات خفر السواحل الليبية في اتفاق بين إيطاليا والقذافي منذ مطلع الألفية الثالثة، ثم أعادت الأجهزة المنشأة من قبل الاتحاد الأوروبي تدريبها بعد رحيل القذافي، وتمويلها (بملايين الدولارات)، وتجهيزها (بعتاد ثقيل)، والتعاون معها (دوريات مشتركة في البحار)، ومع خفر السواحل في تونس ومصر، وليس ليبيا فحسب: لقد جرى دفع الحدود الاوروبية الى خارج أراضيها وتحويل هذه الاخيرة الى قلعة، ولم يشغل الخواجات أنفسهم بما يحدث بعد ذلك.
هذا ثانياً. وهو ما يجعل رعبهم واشمئزازهم الحالي وصياحهم عن المحاسبة الواجبة الخ.. كله مجرد رياء، بل هو يُعظِّم من مسؤوليتهم المباشرة عن الحالة المزرية التي يعيشها هؤلاء المساكين، المعتقلين بعد منعهم من التسلل الى أوروبا في مستودعات غير آدمية، حيث يُجوّعون ويضربون ويعذبون ويغتصبون ويقتلون عمداً أحياناً، ويباعون لأعمال السخرة وللانتفاع الجنسي بهم!
اقرأ أيضاً: المأوى الاخير.. حين يموت المهاجر
وأما ثالثاً - وليس أخيراً - فهناك ضرورة للعودة الى أصل الموضوع، وعدم الاكتفاء بتناول جزء منه بذاته، عبر ممارسة تقطيع الاوصال المعتادة ليسهل تتفيه الظواهر بتحويلها الى "استثناء" ودفنها بعد ذلك، كي يبقى كل شيء من "البزنس" على حاله.. وهي أساليب الايديولوجيا المهيمنة. لماذا يَهجّ الشباب من بلدانهم ليموتوا في الصحراء الكبرى: 30 ألف مهاجر دفنوا في رمال هذه القيافي المهولة بين 2014 و2016، بحسب منظمة الهجرة العالمية التابعة للأمم المتحدة، التي تقول إن ذلك الرقم لا يشمل الذين ماتوا بعد ذلك، في المعتقلات وفي البحر المتوسط. يهجّون لأن هناك مشاكل اقتصادية وبيئية متفاقمة في بلدانهم تلك، بحيث تفقدهم القدرة على العيش فيها وتسد أمامهم كل أفق ممكن: الاستيلاء على الأراضي الزراعية من قبل الشركات العالمية وتحويل الزراعة عن هدف الاكتفاء الذاتي الى إرضاء تجارة وصناعة الغذاء العالميين، ارتفاع درجة الحرارة التي خفضت الانتاج الزراعي بنسبة 10 في المئة، تلويث مجاري المياه والبحار والمحيطات بصناعات النفط والاستخراجات الاخرى بما يقضي على الثروة السمكية وعلى المياه الصالحة للاستخدام، وعلى مساحات كبيرة كانت تستخدم للرعي وتربية الحيوانات، الطفرة السكانية المهولة، فساد الطبقات الحاكمة وتواطؤها مع الشركات العالمية مقابل رشى وحصص، المعاهدات التي أنجزتها أوروبا مع الحكومات المحلية تحت عنوان "اتفاقيات الشراكة الاقتصادية" (APE) والتي تهدف الى منع النظم الحمائية المحلية من فرض ضرائب على منتوجات السوق الاوروبية وفتح تلك البلدان أمام دخولها الحرّ اليها، ما يقضي ليس على الزراعة فحسب بل على صناعات حرفية وأخرى تسعى للنشوء..
هناك قلّة منتفعة من هذا النظام العام وتغتني بواسطته، وهناك تدمير للأنماط القديمة من العيش التي - على سيئاتها وقصورها - كانت توفّر للناس المأكل والمسكن والعلاقات التعاضدية. بالمقابل، هم يُرَمون اليوم أمام النهب والافتراس.
هل من حاجة لمزيد من الأسباب؟