بينما يتجادل البرلمان المغربي حول تخفيض سن الزواج إلى أقل من ثماني عشرة سنة شمسية، خرجت الحكومة العراقية بمعجزة قانونية هي مشروع للسماح بتزويج فتيات لا تتجاوز أعمارهن تسع سنوات «هلالية»، مع إجبارهن قانونيا على الخضوع لرغبات أزواجهن، لأن المعاشرة الزوجية حق أصيل للذكر. وليس للحكومة المغربية والعراقية أي ذنب في هذا. الحكومة مثل قطعة ثوب تغطي المجتمع وتأخذ شكله. وإذا فرشنا قطعة ثوب على شوك وجلسنا لن نلوم الثوب بل الشوك. وقرار الحكومة ابن بيئته. طبعا، يسهل على الإنسان معارضة الحكومة وشتمها وأستطيع ذلك حالا وهي حكومة كسولة مفككة لا ترى أبعد من أنفها. أنا أيضا لا أرى أبعد من أنفي. لكن النادرين هم من يستطيعون معارضة بيئتهم. نواب الأمة خرجوا من مصران الشعب الغليظ. وهم يشبهونه. يشبهون الشعب لا المصران. وقبل التصويت على هذا، سيتهامس السادة النواب بما لن يقولوه على منصة مجلس الشعب، يقولون مثلا: «لا يمكن أن تكون البنت عفيفة بعد سن الثمانية عشر عاما». أسمع تلك الدردشات في أماكن مختلفة.
حجة المشرع المضمرة بسيطة:
يريد الرجال الذين يدفعون المهر وغيْره الزواج من القاصرات... فالقاصرات تسهل السيطرة عليهن. ومن ينكر هذا فقد أعمته الأنوار، لذا لا يشاهد واقعه. الدليل يفقأ العيون: تجتهد المجتمعات بين المحيط والخليج لإخضاع النساء. وهذا مشروع ناجح لحد الآن، ويحتمل أن يحقق نجاحات جديدة سيسمها الحقوقيون نكبات وانتكاسات.
لا أنوي التنديد بهذا، لأن كمية بلاغات التنديد كثيرة. أرى الوقائع لا البيانات. أريد الوقوف على الجانب الآخر من المشكل. استفتيت بعض الشابات حول هذا. الصغيرات خجلن ومن تجاوزن الخامسة والعشرين عاما لاحظن أن الصغيرات يتزوجن والكبيرات يصرن «بائرات» (من فعل بار أي فسد). وقد طالبتْ «البائرات» بتأجيل تزويج القاصرات لتحصل الكبيرات على فرصة.
كل يوم تتلقى «البائرة» هذا السؤال: متى تتزوجين؟
جاءني الجواب جاهزا: وهل وجدت لي عريسا؟
مسحت الأجوبة الجاهزة على طرف اللسان. كرهت الكتابة عن الظاهر والمتداول مثل الحكومة والبرلمان. مشكوك أن هذه المؤسسات تؤثر في حياة الناس. ومررت لأسئلة عميقة: ما الوساوس التي تعبر ذهنك ورأسك على الوسادة بعد منتصف الليل؟
لا جواب واضحا، أغير الصيغة: لديك صديقة بلغت الثلاثين ولم تتزوج؟
آه صديقتي.
تعبر محاورتي عن استعداد للحكي. تنتبه: وماذا لو قرأت صديقتي مقالك وعرفت أني تكلمت؟
طمأنتها: لن تعرف والقصة لا تعنيها وحدها بل عاشتها ألف بنت.
محاورتي مستعدة لتحكي عن صديقتها، أوافق وأنا أعتبر أنها تحكي عن نفسها بضمير الغائب، وهكذا يتطابق الأنا والآخر. وإذا كان الآخر هو الجحيم فأنا أيضا جحيم.
قالت إن صديقتها تردد «اللهم اجمع بين المتحابين في الحلال»، وكلما زاد عمرها زادت جرعة التقوى في دمها، وهي تتمنى أن يأتيها ابن الحلال. حين يتأخر تشك في كثرة أولاد الحرام. وحين تتعرف على شخص تتوفر فيه بعض الشروط «تمسك فيه بأسنانها وأظافرها» وتكتب على صفحتها على الفيسبوك «مخطوبة».
ما هو الزواج؟ أجابت: بصراحة أجهل التفاصيل لأن جل المتزوجات يخفينها ويظهرن السعادة والدليل أن وزنهن يزداد.
كم صديقة لك تزوجت؟
أجابت «كانت لي صديقة واحدة تزوجت. بمجرد زفافها لم أعد أراها ولا أتواصل معها. من يومها وأنا أتوفر فقط على زميلات عمل. جلهن تزوجن وهن يحكين أن الزواج أجمل ما خلق الله، يصمتن لبعض الوقت ثم يضفن: «إذا وجدت من يفهمك وتفهمينه». حاليا يفضل الرجال الزواج من بنات البادية، خاصة حين تكون هناك روابط عائلية.
حتى الحكومة تفضل تجنيد أبناء البوادي في الجيش والشرطة، إذًا فالرجال يشبهون الحكومة. لتخفيض توتر محاورتي الثانية انتقلت من الواقع للحلم:
«اذكري لي عشرة بنود في دفتر أحلام زواجك؟» طويل وجذاب. غنيت لها مقطعا من موال «يا ظريف الطول وقف تا قلك». تحسن مزاجها فأكدت أنها تريد فارس أحلام لا يقول لها في غرفة «أنت أمام الله زوجتي»، بل تريده أن يفعل ذلك أمام القانون والمجتمع. وتريد أن تكون أم العريس ميتة. وهذا استعداد فطري لحرب أهلية منزلية مع الحماة المستقبلية. لا توجد الحرب الأهلية في الماضي فقط.
كيف تعيش صديقتك علاقاتها العابرة؟ بالعكس العلاقات التي يظن الرجال أنها عابرة تجدها الفتاة فرصة انغماس الصنارة. في باب الحب العابر لدي رصيد «جد مهم» من «حكاوي» وخبايا تساعد على قراءة نوايا الرجل. لكن كيف تتطور علاقة تنتهي في أسبوع إلى زواج؟
دون زواج توجد علاقات. في الألفية الثالثة ألف صديق ليسوا كفاية، العلاقات الحميمة بين الجنسين بلا أفق. يخشى الشبان الزواج، يعتبرونه قفصا، ولا يهمهم معدنه ذهب أم حديد. هو قفص اقتصادي أولا.
هذا لب التداعي الحر الذي استمعت إليه وقد تجنبت تنسيقه.
لنمر للخلاصات: ما هي نتائج تأخر الزواج؟
صحيا، هناك الأرق والقلق. لا بد من وسائل اصطناعية لجلب النوم بينما تنام المتزوجات منهكات في العاشرة ليلا. تسبب عنوسة الرجال والنساء قرحة، فالانفعالات والقلق يجعلان المعدة تفرز مادة مضرة. هنا تتحقق المساواة بين الجنسين.
اجتماعيا، تتعرض الشابة لتوبيخ متصل، تُقصف بالسؤال: لم تتزوجي بعد؟ وفي السؤال الاستنكاري اتهام «أنت سبب عنوستك».
تدافع الشابة عن نفسها، تنفي تعرض الرجال للتوبيخ نفسه. «هذا تمييز ضد النساء، لذا لا أبالي بما يقول المجتمع». ترفض الشابة النصائح المسمومة الساخرة. تؤكد أنها مرتاحة، تكتب على صفحتها على فايسبوك «ليَس عَلِينا أنْ نتكَيف لِنكُون أَجمَل فَنحْنُ بِعفويتَنا رَائِعون».
بعد الرد الجاهز يأتي التأمل العميق للوضع: أظن أن والدي، بل والغرباء، يحملون همّ زواجي أكثر مما أفكر فيه أنا. بعض الغرباء يسألونني للشماتة. يسألونني كل يوم وكأنني حمل ثقيل على الكل. تعاطف أشبه بالعزاء كوني لم أنل نصيبي من أي رجل... ثم إن الملك محمد السادس لن يسمح بتخفيض سن الزواج... فلو كان القرار بيد غيره لخُفّض سن الزواج ليصير المغرب مثل اليمن والسعودية. وهذا مصدر غير منظور لشعبية الملك.
قلت لها:
احبلي من صديق. المهم هو الطفل لا الرجل. الأزمات المادية دورية لكن لوقت الإنجاب حد. لو كنت بنتا لفعلت هذا. ردت لي: نصائحك على رأسي لكن لا أحبذ ابن زنا. وهل تفضلين بلوغ سن اليأس بلا طفل؟ للبيولوجيا قانون صارم، سن الإنجاب محدود لدى النساء. أجابت بثقة: ليس في حياتي سن يأس، كلي أمل وطموح وعطاء.
أوقفت الحوار لأحتفظ له بنهاية سعيدة.