مديرة الشركة تخاطبنا تمارين في العلاقات العامة

تلقيت دعوة للقيام بتغطية صحافية لنشاط ثقافي في فندق فخم. الفضاء واسع، السقف عال والفراش وثير وللكراسي أشكال مبتكرة. في جهة، مثقفين أعرفهم من لقاءات سابقة، وفي جهة مقابلة مثقفين لا أعرفهم، يرتدون بدلات جديدة وربطات عنق، وجوهم حليقة وشعرهم مصفف أو رؤوسهم صلعاء تلمع. بجانبهم طاولات تزخر بالحلويات والعصائر. كل واحد يخدم نفسه بسخاء، إذاً فالانتظار لذيذ هنا، لذيذ.هذا وجه آخر للدار البيضاء.
2014-06-10

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
من الانترنت

تلقيت دعوة للقيام بتغطية صحافية لنشاط ثقافي في فندق فخم. الفضاء واسع، السقف عال والفراش وثير وللكراسي أشكال مبتكرة. في جهة، مثقفين أعرفهم من لقاءات سابقة، وفي جهة مقابلة مثقفين لا أعرفهم، يرتدون بدلات جديدة وربطات عنق، وجوهم حليقة وشعرهم مصفف أو رؤوسهم صلعاء تلمع. بجانبهم طاولات تزخر بالحلويات والعصائر. كل واحد يخدم نفسه بسخاء، إذاً فالانتظار لذيذ هنا، لذيذ.

هذا وجه آخر للدار البيضاء. صحيح أن المدينة سيئة السمعة لأن الإعلام يركز على جانبها القبيح، أي الزحام والنفايات والمساكن العشوائية، لكن توجد أيضا أماكن أسطورية بشوارع يزيد عرضها عن ثلاثين مترا ومئات الأشجار وفنادق من عشرين طابقا وسيارات تسر الناظرين... من هذا الموقع فشعار تلفزتنا "المغرب أجمل بلد في العالم" شعار صحيح.

الدليل على روعة الدار البيضاء هو أن سكانها يتزايدون كل يوم. إنها توفر الرزق للناس، وهذا أهم شيء. هذه تصفية حساب مع المكان انتهت بمصالحة. لذلك فبعد عام قضيته في المدينة، أشعر أني في المكان المناسب. لأتابع تسجيل الملاحظات حول المكان وما يجري فيه.

بعد الحلويات دخل الجميع قاعة الندوة، خلف المنصة لوحة كبيرة عليها شعار شركة شهيرة. جلسنا ننتظر تقديم المخرج والممثلين للمناقشة. لكن قبل ذلك، هناك تعريف بالشركة المواطنة التي احتضنت ومولت النشاط الثقافي مشكورة. تولت مديرة الشركة التقديم، امرأة في الأربعين، أنيقة وحيوية وفي كامل مشمشها حسب تعبير الشاعر الخبير بالنساء محمود درويش. رحبت بنا المديرة في دكان البراغماتية، شرحت مشروعها في تمويل الثقافة. كثيرون استمعوا لخطاب المديرة بتوتر، يشعرون بأنهم خدعوا. لأنه لا يليق أن يكون الفعل الثقافي في بطن شركة هدفها الربح أساسا. يرفض الفنان المغربي أن يملي عليه مالكو المال القوانين. لدى الفنان الذي بدأ مناضلا عداء شديد للرأسمالية، تسري كراهية اقتصاد السوق في لاشعوره، خاصة في هذا العصر الذي بلغت فيه الفوارق في الدخل مستويات يعجز الخيال عن هضمها. لكن للضرورة أحكام.

انتقلت المديرة من دور المحاسبة إلى دور "امرأة علاقات عامة"، تخلط بين الماركتينغ والأخلاق. شعرتْ بهذا وهي تراقب وجوه الحضور فأكدت أنه لو احتضنت كل شركة نشاطا ثقافيا لتطور الفن في المغرب. بالنسبة للمديرة، فهذا الدعم هو الطريقة الوحيدة لجعل المثقفين والفنانين يقدرون الشركات. الجو متوتر بصمت. في نظراتها لمساعديها تجمع المديرة بين الابتسامة والقبضة الحديدية. تبتسم بمقدار ولا تضحك، فالمثل الشعبي يقول "الضحك يُفسد البيع". تظهر المديرة الود للزبائن، أي نحن، وقد جئنا لأن الدعوة كريمة والمكان راق مع ملاحظة جوهرية، وهي أن نص الدعوة قد ذكر الحلويات والعصائر، لذا أمتلأت القاعة التي احتضنت الندوة.

قالت المديرة إن مساعديها يدعمون المشروع الثقافي، وأشارت للرجال الأنيقين الجالسين على يمينها فتوجه إليهم المصورون. هؤلاء محاسبون وتحبهم الكاميرات. لا يسبب لهم عملهم أي إنهاك جسدي. يعملون بعقولهم. وهم يمثلون مع المديرة نموذجا من أقلية مجتمعية تملك وسائل الإنتاج. لذلك يظهر خطابها كأنه خطاب الأغلبية المجتمعية. صوتها مسموع والدليل هو أن الصحافي المدعو سيكتب عن الشركة المحتضنة والفنان المدعوم، سيكتب عن تصالح الشركة والفنان وهذه دعاية طيبة طاهرة من شبهة التجارة.

كنتُ على يسار المديرة أفحص المؤشرات السوسيولوجية الدالة عن علاقة الفنان والمقاول. أقارن: في المغرب يكسب المحاسب أكثر من الفنان، لكن لو سألت طفلا: هل تحلم أن تكون فنانا أم محاسبا؟ سيجيب فنان.

حين سيكبر سيتمنى لو كان مقاولا. في دنيا المشاعر الفنان أهم. في حساب البنك العكس. في الأسطورة يلتقي المقاولون بهرمس إله التجارة بينما يلتقي الفنانون بسيزيف وباخوس...
ما شكل المستقبل بالنسبة لهما؟ المقاول متفائل دائما والفنان المثقف متشائم إلا إنْ تخلَّص من وعيه النقدي أو إذا احتفظ بحلم الطفولة في دمه.

نظريا لا سبيل للمقارنة بين المقاول والفنان، لأن هذا الأخير ينفي عن نفسه شبهة ممارسة التجارة. حتى حين يكون بائعا ينادي على سلعته، يتظاهر بأن الغاية هي خدمة رسالة سامية حتى لو صارت رسالته سلعة مربحة. انظروا حولكم لتروا كم من فنان يُكري حنَكه ويدعو الله أن "تسلم الأيادي والكرباج والبنادق".

بينما المديرة تسوق مشروعها تلاشت صورتها وبقي صوتها يخترق أعماقي، صوت نسوي واثق معزز بالمعطيات عن مجالات عمل الشركة ونمو رقم أعمالها وعدد فروعها والعاملين بها.
بينما تتحدث المديرة عبرتني مشاعر مختلفة: غضب، عداء، شكر، نقد ذاتي... ماذا أفعل هنا؟

هل الاقتصاد أخلاقي؟ البائع ليس محايدا، إنه منحاز لسلعته. يفترض بالفنان أنه موضوعي، محايد وأن الحقيقة سابقة بالنسبة له على الربح. يصدق الناس هذا وأنا أيضا. ومن هنا فإن صورة الفنان فعالة في العلاقات العامة، لذا تستأجر شركات الإعلان الفنانين المحبوبين. يقول المثل "إذا أحبتك الجماهير فحدد السعر الذي تريد". تحب الجماهير الفنانين، لذا تستأجرهم شركات الإعلان على أمل أن يقع الزبائن في حب الشركة كما وقعوا في حب الفنان.

لتحقيق هذا الهدف العظيم صارت العلاقات العامة مهنة تتطلب تمويلا، تنظيما ومتابعة غير موسمية، ليصير الزبون وفيا للسلعة. على المدى القصير يحقق الماهرون في العلاقات العامة إنجازات كبيرة.

وبعد الندوة هناك عشاء مجاني في الفندق الفخم. وجبة بثمن مرتفع يتعذر على صحافي دفعها. مسحت دسامة الوجبة العداء الفطري اللاشعوري للمديرة، وساهم اللحم المفروم في هضم دور الرأسمالية في الثقافة... طبعا للوجبات المجانية الدسمة دور كبير في العلاقات العامة. حين يشبع الزبائن يصغون جيدا.

مقالات من الدار البيضاء

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه