يجري الجدل في مصر حالياً حول تقليص تدريس مادة الفلسفة في الثانوي. في المغرب بدأ تقليص دروس الفلسفة في مطلع ثمانينات القرن الماضي، مع الحسن الثاني، بالتزامن مع الاحتجاجات ضد النتائج الاجتماعية لسياسات التقويم الهيكلي التي سماها المغاربة «شي يأكل، شي يشوف» (البعض يأكل والبعض الآخر يكتفي بالنظر للصحون). حينها قتل العشرات في احتجاجات حزيران/يونيو 1981 بمدينة الدار البيضاء.
سمّاهم وزير الداخلية إدريس البصري في البرلمان «شهداء الكوميرا» (الكوميرا خبز مستطيل). وقد خلد الطلبة في الجامعات الحدث الدموي بأنشودة:
"اشهد يا حزيران
في يومك العشرين
وطني أنار الدرب
والنصر مشتعل
هذي يقظة الفلاح
هذي صرخة العامل
هذي ثورة الجمهور
مواكب الابطال
مدينة البيضاء
يا درب من قتلوا
أبناؤك الفقراء
اليوم قد وصلوا".
في تلك الأجواء القاسية، بين 1981 و1984، خطب الملك الحسن الثاني بانفعال شديد مرارا، وقد هدد الأساتذة والأوباش. كان السياق التاريخي ثوريا، وقد اعتبر درس الفلسفة مدخلا لاعتناق الشباب المتمدرس للميول النقدية، والشك، وللفكر الاشتراكي. لذلك تم تقليص حصص درس الفلسفة في الثانوي، كما جرى حذفها بالنسبة لبعض المستويات الدراسية. وقد تزامن التقليص مع منع مجلات ثقافية مثل «الثقافة الجديدة»، «جسور» و«البديل». ووقعت هجمة بوليسية على النوادي السينمائية واعتقل عدد من ناشطيها سنة 1985.
في تلك الفترة، كان كتاب الفلسفة معلمة ثقافية. كان الكتاب قويا وغنيا بنصوص مرجعية في الفلسفة. كتاب وضعه كل من الدكتور محمد عابد الجابري والأستاذين أحمد السطاتي ومصطفى العمري. وقد كان الجابري مثقفا اشتراكيا من قادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهي المعارضة الرئيسية للحكم في المغرب طيلة الربع الأخير من القرن العشرين. وقد لعب ذلك الكتاب دورا كبيرا في تشكيل وعي جيل بكامله.وأنا واحد ممن درسوا في ذلك الكتاب.
لماذا تُحارَب الفلسفة؟ لأنها تشجِّع الفضول المعرفي وحب الإطلاع وطرح الأسئلة.
الحقيقة أن الفلسفة مفيدة. فهي تجعل الفرد يرى العالم من زوايا مختلفة. هي السؤال عن الذات وعن الموضوع، سؤال لماذا وكيف.. وهذه ذهنية خطرة بالنسبة لمجتمع محافظ يعتبر السؤال مسيئا ووقاحة. مجتمع يفضل الإجماع على المناقشات. هنا يُنظر للفلسفة على أنها مصدر شر. ويستدل بأنه قديما قيل «من تمنطق تزندق».
ولحماية المغرب من تكاثر الزنادقة، فكل تلميذ مغربي يدرس 884 حصة تربية إسلامية من الابتدائي إلى البكالوريا، في حين لا يدرس إلا 714 حصة من علوم الحياة والأرض و210 حصص من مادة التاريخ و209 جغرافيا... خلال 12 سنة. وأقل من ذلك بكثير في مادة الفلسفة. حصة الإمام مالك رضي الله عنه هي أربعة أضعاف حصة ابن خلدون في المقرر التعليمي المغربي. للمزيد، يوجد سلك تعليم عمومي ديني اسمه «التعليم الأصيل»، يدرس الفقه أساسا، وقد بذل الحسن الثاني جهودا كبيرة لكي لا ينقرض هذا النوع من التعليم، بأن سهّل التحاق طلبته بالجامعات.
وهناك تعليم عتيق خصوصي. طبعا يخضع التعليم الخصوصي للمراقبة، لكن القانون المنظِّم للمجال يقول «لا تُطبق أحكام هذا القانون على الكتاتيب القرآنية ومدارس التعليم العتيق». زدْ على ذلك وجود أربعين ألف مسجد في المغرب. زد على ذلك أنه حتى في مقرر اللغة العربية بالثانوي، يوجد نص مناظرة حول قول إخوان الصفا بالتوفيق بين الشريعة والفلسفة.
تجري المناظرة بين السجستاني والبخاري أبو العباس. سُئل الأول عن رأيه في قول إخوان الصفا فقال إنهم «تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما وجدوا، وحاموا وما وردوا..» النص مأخوذ من كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (الجزء الثاني ص 5-22). وفيه ذم لإخوان الصفا وخلل في توزيع الكلام. ففي النص 44 سطرا لا يتحدث فيها البخاري المعجب بإخوان الصفا إلا في ثمانية أسطر. والباقي لعدو الفلسفة الذي يختم بالتأكيد بأن النبي مبعوث والفيلسوف مبعوث إليه. والدين كمال إلهي.
يوجه هذا التقسيم التلاميذ إلى موقف واحد، لأن الحوار غير متوازن. خاصة وأن العالِم ينتصر على المتفلسف. للإشارة، توجد في المغرب مؤسسة مهمة اسمها «المجلس العلمي الأعلى». من يسمع مجلس علمي يظن أنه مجلس علوم نووية. والسبب في هذا الخلط هو أن الفقهاء احتكروا لأنفسهم صفة العلماء.
المفارقة في المغرب، أنه بعد تفجيرات «16 ماي 2003» الإرهابية، تمت العودة لتدريس الفلسفة بالسنة الأولى ثانوي في ايلول/سبتمبر 2003، كما كان الأمر قبل الثمانينات.
حلِّل وناقِش.