بدأت أول علاقة لي بالحروف، وليس الأرقام، في الجامع، هو عبارة عن خيمة من شعر الماعز الأسود، تحولت بعد عام إلى مبنى واطئ من الطين، به باب صغير ونافذة بشباك حديدي، الباب إلى القِبلة والنافذة نحو الغرب من حيث تأتي الريح دائما.
كنت أقصد الجامع في الصباح الباكر، أقبل يد الفقيه، يجلس على لبدة خروف كبير، تعلمت على يديه الحروف والكتابة على مرحلتين، في المرحلة الأولى تعلمت الكتابة شفهيا، «الألف ما ينقط»، «الباء نقطة من تحت»، التاء اثنتان فوق...
في المرحلة الثانية تعلمت الكتابة وحفظ قصار الصور، كنا نحن التلاميذ نغسل اللوح الخشبي، طوله حوالي أربعين سنتمترا وعرضه حوالي ثلاثين وسمكه حوالي سنتمتر ونصف، نطليه بالصلصال الذي نجلبه من بقايا حفر الآبار، يخط الفقيه على اللوح الرمادي حروف الآيات القرآنية بقلم من قصب، بعد ذلك نكتب ـ مقلدين الخطوط ـ
مستخدمين «السمخ» وهو مداد تقليدي نصنعه من صوف الخراف، إما بتذويب أوساخ الصوف أو بحرق الصوف نفسه إلى أن يتحول إلى رماد أسود، نضعه في قارورة ونضيف الماء، نُقلقِله فيصبح سائلا أسود صالحا للكتابة.
بعد ذلك نبدأ الحفظ، أي نقرأ جماعيا ما هو مكتوب على اللوح طيلة اليوم بصوت مرتفع، رغم أننا لا نقرأ نفس الشيء، لأن لكل تلميذ مستوى معين حسب أقدميته في الجامع وحسب ملكة الحفظ لديه. في المساء نستظهر ونمحو الكتابة عن طريق غطس اللوح في حوض ماء صغير داخل حجرة الدرس... يأتي المرضى ليأخذوا الماء من الحوض لعلاج بعض الأمراض، لأنه ماء حروف القرآن.
في كل حصة، يخصص الفقيه قليلا من الوقت للكتابة والباقي للتسميع والترديد، طيلة الأسبوع ما عدا يوم الخميس ـ لأنه يوم العطلة والسوق الأسبوعي ـ وصباح الجمعة، إذ تخصص الصبيحة لتنظيف الجامع، نُخرج الحصير ليتشمس ونغسل قاعة الدرس، نعمل ونلعب ولا ننصرف إلى بيوتنا، إذ بعد الظهر يجلب الناس الكسكس ويفرقه علينا الفقيه فوق الألواح، نأكل بأيدينا ونلحس الباقي بألسنتنا، نلحس الكتابة لتبقى في الذاكرة.
كان الفقيه يحب التلاميذ المجتهدين فقط، ويأمر الكسالى بإحضار بيضتين في الأسبوع، وقد كانوا يوافقون على ذلك، وغالبا ما لا ينفذون ما وافقوا عليه، يزعمون أن الدجاجة لم تبض، فيقول لهم: «أجبروا الديك على العمل».
سمعة الفقيه مرعبة، يرتدي الجلباب نفسه كل يوم، نخلي له الطريق كي لا يرانا، إذا جاءنا ضيفا لا نصدر صوتا، يضبط المتعلمين بواسطة سوط مصنوع من عصى طويلة وقطعة جلدية تصل إلى أبعد طفل وتلتف حول عنقه. كنت أنام في الجامع في حصة بعد الظهر، وكان السوط يلتف حول عنقي فأقفز من مكاني.
يتناوب أولياء التلاميذ على إطعام الفقيه ودفع راتبه، وقد كان هذا الراتب يتكون من قدر متفق عليه من القمح والشعير والزيت وخروف لعيد الأضحى. إضافة إلى تبرعات أخرى. فقد كانت جدتي تسألني ماذا حفظت، أستعرض عليها بعض الآيات فتقشر لي الرمان في قصعة صغيرة وتأتيني بمِلعقة لآكله، وفي الغد تمنحني قطع سكر لأعطيها للفقيه.
حين بلغت السادسة والنصف، دخلت المدرسة، انتقلت من مسجد الطين إلى مدرسة الإسمنت، من فقيه شيخ إلى معلم شاب، من الجلباب إلى السروال، من الحصير إلى الطاولة، من اللوح إلى الدفتر، من عصى الفقيه إلى مسطرة المعلم، من ريشة القصب إلى ريشة الزنك، من السمخ إلى الحبر الصيني، من القرآن إلى الحساب.. وقد كانت أول كلمة نطق بها المعلم أمام الفصل هي:
ــ صف... اليد على الكتف.
كانت مدرستنا عبارة عن قاعتين في الخلاء تحيط بها أشجار الكاليبتوس، كانت القاعتان فرنا وحماما في عهد الاستعمار الفرنسي، تم تحويلهما إلى مدرسة منذ الاستقلال، كنت أقطع ست كيلومترات يوميا لأصل إلى المدرسة، أما في العطل فقد كنت أذهب للدراسة في الجامع، لكني لم أعد أخاف من الفقيه، ذات يوم أمسك بي ليجلدني من أخمص قدمي، عضضته وهربت. وكانت تلك آخر مرة أدخل الجامع.
كنا ثمانين تلميذا من أعمار مختلفة، إلتحقنا دفعة واحدة بالمدرسة (ستة فقط حصلوا على الإجازة)، كنا أبناء فلاحين في معظمنا، تدرس معنا بعض بنات الموظفين، ودائما تثير بنات الموظفين إعجاب أبناء الفلاحين. كنا نجلب للمعلمين الحليب والبيض والزبدة والخضر يوم الأحد على الحمير، لم يطلب المعلمون منا قط هذه الأشياء، لكن يعتقد الناس أن تقديم منافع للمعلم سيجعله يهتم بأطفالهم أكثر.
كانت المسافة الفاصلة بين المدرسة والبيت تستهلك ما يعادل الحصة الزمنية المخصصة للدراسة، وقد كانت الطريق فرصة لتبادل الأخبار، سمعت من أبناء الجيران عن اعتقال أستاذ اسمه ادريس بن زكري، سألت جدتي عن سبب الاعتقال، فكررت الجواب الرائج بهمس:
ـــ السياسة! (لحظة صمت وخوف).
قضيت أياما أفكر في هذه الجواب.
هاجرت أسرتي إلى مدينة تيفلت (60 كلم شرق الرباط)، هذه أول مرة أنفصل عن جدتي لأتعرف على أمي، التحقت بمدرسة «حي السكويلة»، يفترض أن أدرس سنة واحدة لأحصل على «الشهادة الابتدائية» وألتحق بالإعدادية، لكني كررت لأن ما تعلمته في البادية كان رديئا، خاصة في اللغة الفرنسية ولم أتخلص من هذا النقص قط.
قضيت سبع سنوات في الابتدائي منها ثلاث سنوات في الفصل الخامس الذي كان عنق الزجاجة الذي يمكن الحكومة من التخلص من آلاف التلاميذ... خلال هذه السنوات درست لدى معلمين مختلفين، أحدهم كان عدوانيا، يضيع نصف ساعة من كل حصة يدردش ويقهقه مع المعلمة التي تدرس بجواره، حين يدخل الفصل يكون عبوسا، قانطا من التلاميذ وضجرا في شرح الدرس... يقضي في ممارسة العنف أكثر مما يقضي في التواصل، كان يجلدني، يأمرني أن أنزع حذائي البلاستيكي فتنبعث منه رائحة مقرفة، يرسلني إلى المرحاض لأغسل قدمي، أرجع فيمددني على الطاولة، يمسكنى أحد التلاميذ الأقوياء والأكبر سنا من ساقيّ ويبدأ المعلم يضربي بإخلاص كما يُضرب الحمار، يضربني على أخمص قدميّ حتى يتورما. حين يتعب ويطلقني، أعجز عن الوقوف وأسير كأعرج. وهذه عقوبة تسمى «فلقة». أحيانا يضربني على مؤخرتي بعد إنزال السروال، يضربني بالغصن الذي جاء به من الشجرة للتو. يتعب من ضربي فيطلب مني أن أقف أمام مكتبه، يمسك يدي، يضع فيها مسطرة حديدية أو قلم «بك» سداسي الأضلاع، يدفعه بين السبابة والأوسط، يضم أناملي بيده اليسرى ويضغط بينما يقوم بتدوير القلم بيده اليمنى، يسبب لي ذلك ألما مروعا، كان معلمي يقوم بهذا ويبتسم. فرارا من هذا التعذيب الممنهج تمارضت ودخلت المستشفى أسبوعا، لم يجد لدي الأطباء مرضا ما فأخرجوني ورجعت إلى معلمي الملعون.
حصلت على نقطة جيدة فافترض أني غشاش. ذات مرة جئت إلى المدرسة حافيا كي لا أتغيب فأمرني بالوقوف أمام التلاميذ وبدأ يسخر مني، قلت له أن أمي أغلقت الباب على حذائي فبالغ في السخرية من أسرتي... قضيت ثلاث سنوات في فصله قبل أن أنجح بفضل الدروس الخصوصية. لم أفهم قط لماذا لم يطلب هذا المعلم نقلي إلى فصل آخر ما دام يكرهني، كان سلوكه تجاهي انتقاميا. حين ألتقي به الآن أتجاهله وأحتقره.
تجاوزت الابتدائي بمشقة وقد بدأ الكوميسير الذي فُرض على الناس زعيما سياسيا يسيطر على مدينة تيفلت. توالت سنوات الجفاف واستعرت حرب الصحراء، استشهد الكثير من الجنود الشبان من عائلتي، خيّم الحزن على القرية التي ولدت فيها، التحقت بإعدادية إبن آجروم، التي كان فيها إدريس بنزكري أستاذا، ذاك الذي دخل السجن وانا في الابتدائية، وقضى فيه أحد عشر عاما. قضيت خمس سنوات في الإعدادي، رسبت في السنة الثانية بسبب الشغب، بكيت من باب الإعدادية حتى غرفة نومي، مسافة كيلومترين، كان هذا التكرار المهين هو الحدث الذي أيقظني من غفلتي. بعدها تغيرت تماما، أنجزت ثورة في دماغي، بدأت أطالع، طالعت رواية «بطل من هذا الزمان» في عشرين ساعة متصلة. كان أستاذ العربية يتجاهل المقرر ويدرس سير العظماء، وهكذا طالعت أهم السير، وقد كنت أتغيب لأذهب إلى المكتبة.
تجاوزت الإعدادي بعد أن انفجرت مركبة شالنجر في طريقها إلى الفضاء. كان دور المطالعة أهم من دور الأساتذة. أصبحت متفوقا لأني تخلصت من مواد الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية. كنت فيلسوف المؤسسة، كانت إحدى التلميذات التي أحببتها تقول لي «أنت ستجن ذات يوم من كثرة التفكير».
حصلت على البكالوريا ودخلت الجامعة في مدينة القنيطرة مع انهيار جدار برلين. في الجامعة بدأت أستكشف العالم، أختبر الكتب التي طالعتها، أتخيل نفسي أستاذا جامعيا. أدهشني جو الكلية حيث تتنافس الفصائل السياسية على استقطاب الطلبة، اندلع إضراب 14 كانون الأول/ ديسمبر 1990، وسال الدم في الشوارع. كنت حزينا لذلك، لكن لا تُغيِّر المشاعر مسار التاريخ.
مرّت الأيام حالكة مريرة على الصعيد السياسي، لكن حين ألقي نظرة على تاريخ تعلمي، أعتقد أني قد كنت محظوظا، لأني قد وجدت الوقت الكافي دائما لأهضم المتغيرات التي فرضها المحيط علي، وقد التقيت الأشخاص الذين ساعدوني على النجاح في التعامل مع تلك المتغيرات.
فإضافة إلى دور جدتي، درست لدى أساتذة عظام، مصدر هذه العظمة ليس الشهرة بل النتائج التي ترتبت عن جديتهم الحادة من أجل تعليم أبناء الشعب. لقد كانوا أساتذة مدهشين في ثراء شخصياتهم وفي إخلاصهم لعملهم واقتناعهم بضرورة التأثير في تلامذتهم. من خلال تجربتي أعترف أنهم قد حققوا ذلك أولا عبر الإيمان العميق بالمساواة، وأهمية المعرفة في تحقيقها. لذا عملوا على تثقيفنا ومدنا بالمعطيات لتوسيع مداركنا. ثانيا من خلال تثمين العزيمة والجدية والمواظبة وتقدير المتفوقين وإظهار الفرح بذلك. ثالثا بالحث على الاعتزاز بالنفس، لأنه مصدر قوة الشخصية ومنبع الشجاعة في التعبير عن الرأي. رابعا برفض الواقع وبث الفكر النقدي أثناء شرح المسكوت عنه في المقرر التعليمي، خاصة في مادة تاريخ المغرب.