الثالوث المحـــرَّم فـــي السينما المغربية

يجري المشهد في مدينة وارزازات، هوليود أفريقيا. هنا صوّر مخرجون كبار مثل باولو بازوليني وريدلي سكوت أفلامهم بفضل توفر ضوء طبيعي يُسهل التصوير ساعات كثيرة خلال النهار. نرى في المشهد مئات الكومبارس المغاربة يشاركون في تصوير فيلم تاريخي عن الرومان. ويجري الحوار بين الملك ووزيره أمام الشعب في «الأغورا» بينما تحيط بهم التماثيل الحجرية.فجأة يقتحم المقدَّم ـ أصغر موظف في وزارة
2013-01-30

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
مشهد من فيلم "علي زاوا"

يجري المشهد في مدينة وارزازات، هوليود أفريقيا. هنا صوّر مخرجون كبار مثل باولو بازوليني وريدلي سكوت أفلامهم بفضل توفر ضوء طبيعي يُسهل التصوير ساعات كثيرة خلال النهار. نرى في المشهد مئات الكومبارس المغاربة يشاركون في تصوير فيلم تاريخي عن الرومان. ويجري الحوار بين الملك ووزيره أمام الشعب في «الأغورا» بينما تحيط بهم التماثيل الحجرية.

فجأة يقتحم المقدَّم ـ أصغر موظف في وزارة الداخلية ومبعوث السلطة ـ البلاتوه ويتلصص على مجريات التصوير. يستمع لحوار يشتكي فيه الملك من «عام الجوع»، ومن نقص الإمكانات المادية لدى جلالته... يغضب المقدَّم، يتوهم أن الحوار يتناول «صاحب الجلالة الملك» الحاكم حاليا في المغرب، بينما يجري تصوير فيلم عن الملوك القدامى... يتدخل المقدم ويطالب بتغيير الحوار الذي يستحيل أن يقوله الملك... لماذا؟ يجيب المقدم بثقة مطلقة: لأنه يستحيل أن يعاني الملك من نقص مادي.
واضح أن المقدَّم لا يميز بين الواقع والخيال، وما يعنيه هو أن تكون صورة الملك الحالي مشرِّفة.
بهذا الذهاب والإياب بين الواقع والخيال، يصور المخرج داوود أولاد السيد في فيلم «في انتظار بازوليني»، علاقة السلطة بالفن في المغرب. ويكتسي هذا دلالة شديدة اليوم مع النقاش الدائر حول ميزانية القصر الملكي في الرباط، وهي عشرة أضعاف نظيرتها في مدريد. المقدم على حق ويعرف ما يقول. ولهذا السلوك نظير واقعي، فقد حكى مستشار الملك، المرحوم عبد الهادي بوطالب في كتابه «نصف قرن في السياسة»، أن التلفزيون عرض ليلة عيد الأضحى مسرحية عن ثورة الخرفان. طلب الملك من وزير الإعلام وقف بث المسرحية فورا. لم يعرف الوزير ما يفعل فقطع التيار الكهربائي عن العاصمة. وعندما عاد التيار لم يتابع التلفزيون بث المسرحية التي أقلقت الملك بتلميحاتها لشعب تثور خرافه ولا يثور رجاله.
في لقطة أخرى من الفيلم، يشتكي أحد الكومبارس من تكليفه بأداء دور وزير لا يظهر إلا نادرا بسبب صغر مساحة الدور. لذا يطالب الكومبارس أن يؤدي دور أحد أفراد الشعب «ليخدم كل يوم» في التمثيل. وقد خدم في الفيلم حوالي 5000 شخص، يسكنون قرى مقفرة ويعملون مؤقتا ككومبارس.
قليلة هي الأفلام السينمائية المغربية التي صورت في القرى، جلها صور في المدن. مع تراجع ديموغرافية البوادي، صارت المدينة محورا وديكورا للأفلام. فالمدن الكبرى توفر هواء الحرية (كما قال ماكس فيبر). وقد كانت للدار البيضاء الحصة الكبرى. ومن أشهر الأفلام التي صورت بها «كازا نيغرا» لنور الدين لخماري، ويُظهر الفيلم المدينة خطرة قذرة، على جل جدرانها يتكرر هذا التنبيه: «ممنوع رمي الأزبال وشكرا». وعادة ما تكون الأزبال قريبة من الكلمات التي تحذر من رميها. في هذا الفضاء يتسكع شابان أحدهما عاطل تماما والثاني يعيش بطالة مقنعة. من خلال جولاتهما في شوارع «البيضاء» نتعرف على عالم المهمشين، حيث العنف والفقر والدعارة.

في فيلم «علي زاوا» لنبيل عيوش نتعرف على أطفال الشوارع. في المقررات التعليمية، يدرس التلاميذ سيرة «في الطفولة»، عن طفل من أسرة بورجوازية يصطحب وسادته معه حين يتنقل بين منازل أهله. أما في الفيلم فنتعرف الى أطفال مشردين، يتعرضون، رغم تمرنهم على قانون الغاب لكل أنواع العنف دون أية حماية.
في كثير من الأفلام المغربية يكون الحلم ملاذا للشخصيات. وهكذا نرى بطل الفيلم مهموما يفكر في مشاكله. وحين ينام يرى حاجاته تحققت، وهكذا يصير الحلم وسيلة العاجز للقفز على عراقيل الواقع.
في فيلم «الدار الكبيرة» يحكي لطيف لحلو عن زواج مختلط، يولد طفل وتحل ساعة الختان، يجري ذلك دون علم الأم المسيحية. وهذا يجعل الاندماج والمصالحة صعبة.
في فيلم «حجاب الحب» لعزيز السالمي نتابع طالبة مجتهدة صارت طبيبة، وقد تحركت عواطفها تجاه رجل يختلف عن الوسط الذي تربت فيه، وسط محافظ يرتدي رجاله الجلباب الأبيض المخطط في طريقهم للمسجد والبذلة وربطة العنق للذهاب إلى العمل، وسطْ تضع فيه الشابات الحجاب أثناء الصلاة. إنه وسط البرجوازية المغربية التقليدية، الذي يحب اقتصاد السوق ويخلخله تحرر النساء.
أثار الفيلم جدلا كبيرا. وفي هذا الجدل نتعرف الى صورة المتفرج المغربي أيضا. لقد كسر «حجاب الحب» الصورة النمطية عن المحجبة. صحيح أن الناس يشاهدون المحجبات على الكورنيش مع عشاقهن، لكن أن يكون ذلك في فيلم، فقد كان صدمة. المزعج ليس أن الفيلم يختلق ويصور سلوكيات لا وجود لها في المجتمع، بل المزعج أنه يصورها. وهو بذلك يشيع الفاحشة. المخجل ليس وجود الفاحشة بل نشرها. فالحديث النبوي يقول إذا ابتليتم فاستتروا. أبطال الأفلام لا يلتزمون بهذا الحديث. المدهش على صعيد الخطاب ـ لا الأفعال ـ أن مجتمع بداية القرن الواحد والعشرين أكثر محافظة من مجتمعات سبعينيات القرن الماضي. من الأفلام التي جعلت المغاربة يغضبون لبعض الحقائق، «عيون جافة» لنرجس النجار التي تناولت الدعارة في منطقة جبال الأطلس المتوسط، وقد ظهرت فيه مومسات حقيقيات حسب المخرجة. صور الفيلم في المنطقة نفسها التي حاول السلفيون لاحقا تنظيفها من الدعارة بترحيل النساء بالعنف، وهو الحدث الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة. وهناك أيضا فيلم «ماروك» لليلى المراكشي الذي يظهر علاقة جنسية بين شابة مسلمة ويهودي... وهذا من تابوهات المجتمع المغربي. فالعادة أن «الملاَّح» ـ حي خاص لسكن اليهود في مدن المغرب قبل هجرتهم ـ فيه دعارة يهوديات للرجال المسلمين. العكس لم يُهضم أبدا من متلقين يعيشون انفصاما.
أين يتجلى الانفصام؟ شخص له عشيقة ويهاجم العلاقات الجنسية خارج الزواج. يدخن ويسكر ويعظ. ينطلق من معايير الذوق العام المثالية متجاهلا تجربته اليومية.
عادة تصور المسلسلات والأفلام التلفزيونية المغاربة اقرب للملائكة، اي طيبين ودودين، يكادون يتخاطبون بالفصحى. حين يشاهد المتفرج هذا يضجر، يشعر أنه بعيد عن الواقع. الأمر مختلف في الأفلام السينمائية المغربية، فهي تتحدى الملل وتحظى بمتابعة لأنها مرآة للمجتمع (يتفوق الفيلم المغربي في «البوكس أوفيس» الوطني على أعتى الأفلام الأمريكية). وهي تتجسس بالمتفرج على سلوكيات أفراد مجتمعه. أفلام ينجزها مخرجون شبان عاشوا فترة من حياتهم في الغرب، فتحرروا من غلالة الحشمة الزائدة التي تجلل نظرة المخرجين المحليين لواقعهم. جلب مخرجو المهجر قيمة مضافة، كشفوا بكاميراتهم الجريئة ما تغاضى عنه غيرهم، عملوا على رصد الظواهر المزعجة، على تسليط الكاميرا عليها وعزلها في كادر كبير بحيث تغطي على ما عداها. ركزوا على السير الفردية، وضعوا الحميمي في الكادر. السينما بنت الرواية لا الملحمة، لذا فهي تحكي أساسا سيرة أفراد لا سيرة جماعات. بتركيزها على سيرة الفرد وبطولته، تضعه في مواجهة الوعي الجمعي. والنتيجة هي أن تنامي النزعة الفردية يؤدي إلى تناقص دور ووزن الرموز الاجتماعية في الحياة العامة.
في الثقافات التي يهيمن عليها الوعي الجمعي، تجد السير الذاتية مقاومة شديدة. سيرة الرسول تقدم كقدوة لما ينبغي الاقتداء به، بينما السير الذاتية الحالية لأبطال الأفلام تركز على الأهواء غير المكبوحة. يتصرف الفرد تبعا لرغباته بحرية تامة. يزعج تعزيز الفن للسلوكيات الفردانية الوعي الجمعي، خاصة في ما يتعلق بالجنوسة. فما يتسامح معه الناس في الشارع لا يتسامحون معه على الشاشة.
وبفضل ميزانية صغيرة قوامها ستة ملايين يورو، تمكن «المركز السينمائي المغربي» ـ وهو الجهة الرسمية لدعم الأفلام وتنظيم المهرجانات السينمائية ـ من تحقيق حضور إعلامي واجتماعي دائم في المشهد المغربي. سواء كانت الحملات معه أو ضده، فالأساسي أنه حاضر باستمرار. ومديره، نور الدين الصايل واضح في خطه المدافع عن الواقعية الفردانية. مرة، في حوار مفتوح، انتقدت متدخلة ظهور نهد امرأة في فيلم. فأجابها: أليس للمرأة المغربية نهد؟ وفي مناقشة تساءلت الكاتبة غيثة الخياط (وقد سبق وكانت رئيسة لجنة صندوق دعم الانتاج السينمائي الوطني، وهي اللجنة التي تنتقي الأفلام التي ستحظى بالدعم المالي المسبق لتصويره): «خارج السياسة والدين والجنس، ما الذي يستحق النقاش؟ العصافير التي تزقزق في الحديقة؟».
فعلا. لم يفكر أي مخرج مغربي بتصوير العصافير تزقزق، وجلهم ـ المخرجون لا العصافير ـ لا يطيقون ترديد ما يغرد به المجتمع حول أفراده، بل يعنيهم تصوير ما يفعله أولئك الأفراد ويحاولون طمسه. وهذه وظيفة كل فن. ليس أن يطمس الزيف، بل أن يشرح تحولات مجتمع يكثر فيه الذين يريدون أن يفعلوا ما يحلو لهم.         
 

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه