هكذا إذاً، رافقتهم طائرات "التحالف الدولي" بقيادة القوات الأميركية حتى وصولهم الى البوكمال، مع تسرّب منتظم لأفراد منهم خلال تلك المسيرة الصحراوية الشاقة: الى مآوٍ بانتظار الانتقال إلى تركيا ومنها إلى حيث يشاؤون، أو إلى إدلب لمن لم يقرر ذلك أو لم يتمكن منه. قبل انطلاق القافلة التي بلغ طولها سبعة كيلومترات والمؤلفة من شاحنات بعضها من الحجم الكبير جداً، كما ضمّت "سيارات خاصة"، جرى إجلاء الصحافيين من الرقة ومُنع التصوير. وقد توقفت تلك القافلة عدة مرات خلال الرحلة التي استغرقت يومين، لقضاء الحاجات والتزود بالوقود والمؤونة، تحت نظر الطائرة الأميركية المرافقة لها عن كثب.
كانوا حوالي أربعة آلاف نَقلوا معهم أسلحة وذخائر ثقيلة إلى درجة التسبب بكسور لبعض الشاحنات. وكان بينهم نساء وأطفال وصفوا بأنهم عائلات هؤلاء المقاتلين الذين كانوا يلفون أنفسهم بأحزمة ناسفة، وقيل إن بعض نسائهم وأطفالهم كانوا كذلك مزودين بمثلها. وكان بينهم كثير من الأجانب، أي ممن ليسوا سوريين ولا عراقيين. عربٌ وأوروبيون وآسيويون يرطنون بلغاتهم. ومما له دلالة في هذا المجال أنه لم يُعلن عن اسم أي داعشي في الرقة قتل أو أسر بعد توقف القتال، بينما كان يوجد في المكان قيادات، وكان يعج بكوادر وبخاصة من الأجانب الذين تخصصوا بإرسال فيديوهات التهديد والوعيد إلى العالم باسره، وبمشاهد الذبح وغيره من فنون القتل.
اقرأ أيضاً: داعش.. ماذا بعد؟
الصفقة معلنة. فاوضتْ بشأنها مع داعش "قوات سوريا الديمقراطية" (وهي تشكيل كردي له سيطرة في المكان) لتفادي استمرار القتال كما يقول مسؤولوها، ولتجنب المزيد من الخسائر في صفوف القوات التي تقاتل "داعش" كما في صفوف المدنيين.. علماً أن الصور المتوفرة تظهر مدينة مهدمة بالكامل. ولكن ذلك التفاوض جرى بحضور ورعاية كبار الضباط الأميركان الموجودين هناك. بعد انتهاء "المهمة"، تمكن صحافيو هيئة الاذاعة البريطانية، صاحبة التقرير(*)، من مقابلة السواقين الذين استأجرتهم "قوات سوريا الديمقراطية"، وقد اعتبروا أنهم خُدعوا إذ لم يُقلْ لهم حقيقة الأمر، لا لجهة طبيعة الحمولة التي سينقلونها ولا لجهة مشاقها ومخاطرها. وكان مسؤولون من تلك القوات يتقدمون القافلة ويقررون وجهتها. قال السوّاقون أنهم خافوا كثيراً ولكنهم وُضعوا أمام الأمر الواقع، وأن المكافأة المالية التي تحصّلوا عليها لم تكن مناسبة. كذلك تمكن صحافيو الهيئة، بعد مغادرة القافلة للرقة، من مقابلة أناس كانوا في المدينة وعلى طول الطريق الذي سلكته القافلة، وهؤلاء أفادوا بما رأوا، بل أعطوا الصحافيين صوراً عن الواقعة بكثير من تفاصيلها، التقطوها بهواتفهم النقالة، ثم تكفل "غوغل ماب" وسائر التقنيات الحديثة بإكمال التقرير المصوّر وجعله واضحاً وشيقاً.
وهو ينتهي بالتأكيد على أن المقاتلين الاوروبيين قد وصلوا الى بلدانهم عبر تركيا، ونقل التقرير بنسخته الانجليزية عن لسان أحد قيادات داعش الذي لم يتمكن من عبور الحدود وانتهى به المطاف في إدلب، أن "إخوانه" يتحضرون لعمليات ستقع في أوروبا وستجري بعنوان "يوم الحساب"!
كان إذاً التأكيد على رفض خروج المقاتلين الاجانب تبجحاً تاماً. ذلك الموقف هو نفسه كان مذهلاً في تعبيره عن نَفَسٍ إجرامي يسعى عادة الناطقون باسم القوات النظامية والدبلوماسيين إلى تمويهه باستخدام لغتهم الخشبية المعهودة. هنا، أدلي بكلام معيب ومخالف لكل قواعد الحروب نفسها. فحتى القادة النازيين حق لهم الحصول على محاكمات. وللتذكير، فقد قال الرئيس الفرنسي إنهم "لا يريدون أسرى، أو أقل ما يمكن منهم"، وهو كلام نقلته صحيفة لوموند الفرنسية قبل أشهر، ومع بدء معركة الرقة، وكان قد أدلي به في اجتماع لـ"مجلس الدفاع الفرنسي"، مضيفة أن مسألة الاطار القانوني لذلك القرار قد "وضعت تحت السجادة". ومؤخراً، ومع الإعلان عن إنتهاء القتال في الرقة، قال بريت ماك غيرغ، هو المبعوث الأميركي الخاص للتحالف الدولي، في تصريح تناقلته كل وكالات الانباء، إن "هؤلاء جاؤوا الى سوريا ليموتوا، فليموتوا إذاً في المكان الذي اختاروه". وهو قرار أكده الكولونيل ريان ديلون الناطق باسم ذلك التحالف الذي قال إن الإتفاق الجاري بين قوات سوريا الديمقراطية وداعش لا يشمل باي حال المقاتلين من غير السوريين.
كان السادة الأجانب يعتبرون أنهم بذلك يحمون بلدانهم من عمليات انتحارية قد يرتكبها العائدون. بينما لم يكترثوا لمصير السوريين والعراقيين منهم، المسموح بخروجهم، على اعتبار أن أضرارهم ستبقى محصورة ببلدانهم.
اقرأ أيضاً: داعش وأعدائه.. المجرمون من كلّ صوب
... ليتبين أن هؤلاء السادة يعتاشون فعلاً على "محاربة الارهاب"، وأنهم بدأوا الآن طوراً جديداً في ذلك الاستثمار المربح يتعلق بترصد الارهابيين المتسللين. وكانت النظريات المؤامراتية تقول إن السلطات الغربية وأجهزتها تفتعل العمليات أو تيسرها لتبقي على جذوة "الحرب على الارهاب" مشتعلة. ويتقاضى الخبراء من "الخواجات" مبالغ هائلة ليحرروا ترهات، ويتقاضى مسؤولون، بعضهم كانوا رؤساء وزراء في بلدانهم، مبالغ أهول ليكونوا مستشارين رسميين مكلفين بملف الارهاب، وينتعش بيع السلاح لسلطات محلية تافهة. وعلى هذا فسلطات تلك الدول تملك بفضل ذلك حجة لإلغاء كل أشكال النضالات المطلبية والسياسية في بلدانها على اعتبار أن هناك حالة طوارئ، وحين تُرفع فبنودها تدخل في القانون العادي (كما حدث في فرنسا مؤخراً، وكما حدث في الولايات المتحدة الأميركية بعد 11/9)، ومن يحتج يُتهم بمسايرة الإرهاب. وعلى هذا وذاك (أيضاً وأيضاً!) تجد الاسلاموفوبيا أرضها الخصبة وتبريراتها، باعتبار أن الارهابيين مسلمون.
نادراً ما كانت تجارة على هذا القدر من الربح العالي ومتعدد الميادين!
(*) نشرت الغارديان، نقلاً عن هيئة الاذاعة البريطانية (BBC)، تقريراً مصوراً بالانجليزية عن خروج مقاتلي "داعش" من الرقة، حمل عنوان "السر القذر"، ثم أعادت الهيئة وضعه مختصراً جداً بالعربية على موقعها.